العلاقة الأميريكية الخليجية: استراتيجية الاحتماء والابتزاز

"يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه... فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به" (من كلام عتبة بن ربيعة مع قريش عن النبي محمد(ص)، مبيناً استراتيجيته للتعامل مع دعوة النبي ورسالته).                                                                      

 لعلّ أهم ما جاء في كلام الرئيس الأمريكي المتكرر على مدى أيام عن ضرورة أن تدفع بعض دول الخليج الكثير من المال مقابل حمايتها؛ أنه يعبر عن استراتيجية أمريكية لهذه المنطقة ودولها، بما فيها تلك الدول الخليجية، بمعزل عن سياسات هذه الإدارة أو تلك، وأساليب هذا الرئيس أو ذاك، حيث تقوم هذه الاستراتيجية على كون تلك الدول الخليجية، والنفطية خصوصاً، بمثابة منجم للمال يرتبط نجاح تلك الاستراتيجية بمدى حصولها عليه، وغنيمتها منه، هذا أولاً، وثانياً في توظيف تلك الدول لتحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة، بما في ذلك توفير بيئة استراتيجية ملائمة لإسرائيل ووجودها.                                           

نعم يمكن القول إنّ ميزة الرئيس الحالي أنه يعبر عن هذه الاستراتيجية بشكل واضح، ويفصح عنها بأسلوب مهين، وقد يكون في هذا أكثر من إيجابية من حيث فضحه لتلك الاستراتيجية وسياساتها، ما يشي بأنّ العلاقة في جوهرها ليست علاقة تحالف أو صداقة، بمقدار ما هي علاقة تجارة، تهدف إلى جني أكبر قدر ممكن من المال والأرباح، وتوظيف تلك الأنظمة في المشروع الأمريكي في المنطقة بل أوسع منها.                                     

وحتى تنجح استراتيجية الابتزاز والتوظيف هذه، لا بدّ من إقناع هذه الأنظمة بوجود عدو يشكل خطراً عليها، وتهديداً لها، لتلجأ تالياً هذه الأنظمة إلى مزيد من الحماية الأمريكية والعون الأمريكي، فكانت الإيرانوفوبيا، ودفع هذه الدول إلى معاداة إيران، بل محور المقاومة، لما يوفره ذلك من وسيلة فاعلة ومؤثرة في ممارسة أكثر من ابتزاز مالي وسياسي، وفي شتى المجالات، لأنه من دون الحماية الأمريكية، فإنّ هذه الدول لا تستطيع الاستمرار أو مواجهة ذلك التهديد الذي تواجه، وبما يؤدي إليه ذلك من حرفٍ للأنظار عن الخطر الإسرائيلي، بل إلى النظر إلى إسرائيل باعتبار كونها عدواً لعدوي، وما قد يدفع إليه ذلك من مبررات –بنظر هؤلاء- للتقارب مع إسرائيل، والتطبيع معها لمواجهة الخطر المشترك.                       

هذه هي الاستراتيجية الأمريكية التي مورست على مدى السنوات بل والعقود الماضية، والتي حققت من خلالها أكثر من نجاح، تعود أهم أسبابه إلى ارتضاء تلك الدول الخليجية الانخراط فيها، والتجاوب معها.                                                               إ

نّ انزلاق تلك الأنظمة إلى استراتيجية العداء لإيران ومحور المقاومة، قد أدى إلى أن تصبح في وضع يسمح فيه لأمريكا بممارسة مزيد من الابتزاز المالي والسياسي بحقها، وإلى أن تتعامل تلك الإدارة الأمريكية معها معاملة القوي الذي يحتاج الضعيف إلى عونه وحمايته، ولا يمكنه الاستغناء عنه.                                                                            

لقد أعانت تلك الأنظمة على نفسها، وشجعت الولايات المتحدة على أن تمارس أسوأ أنواع الابتزاز المهين بحقها، وعلى أن تتعامل معها بأسلوب لا يمكن أن تقبل به أو ترتضيه لها شعوبها، بل حتى مجمل الشعوب العربية والإسلامية، وإن خالفتها الرأي.                    

إنّ اندفاع تلك الأنظمة إلى سياسة العداء لمحور المقاومة جعلها في موقع المحتاج أكثر إلى الدعم الأمريكي، الذي يسمح بمزيد من الابتزاز، والاستغلال، والتوظيف، وممارسة تلك الأساليب غير اللائقة في الخطاب والتعامل. ولذا سوف يكون السؤال ملحاً عن جوهر هذه المشكلة وما أدت إليه وتؤدي.

يمكن القول إنّ المشكلة تكمن في أسباب عديدة، لكن لعلّه يكون واضحاً أن واحداً من تلك الأسباب يكمن في أنّ تلك الأنظمة قد اعتمدت استراتيجية الهجوم والعداء لمحور المقاومة وإيران، مما أدى إلى انزلاقها إلى حروب لم تكن مضطرة إليها، وإلى العديد من المواجهات التي كانت في غنى عنها، وإلى أوضاع سمحت بأكثر من ابتزاز في التعامل معها.                

لقد اختارت تلك الأنظمة طريق الخطأ لاستعادة دورها، أو الحصول على شرعية ما تطلبه، أو لصناعة مجد أو قوة ترغب في بنائها، مما أوصلها إلى خلاف ما تريد الوصول إليه وبلوغه. ومن هنا يمكن القول إن تلك الأنظمة تستطيع أن تجعل من نفسها في موقع أقوى، وأن تسدّ على الإدارة الأمريكية أبواب الابتزاز والتعالي في التعامل معها، وذلك بتبديل استراتيجيتها من استراتيجية العداء والمواجهة لمحور المقاومة وإيران إلى استراتيجية المصالحة والتعاون معه. قد لا يكون مطلوباً من تلك الأنظمة أن تذهب إلى مواجهة إسرائيل، وأن تلغي تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية –وهي لا ترغب به، ولعلها لا تستطيعه- لكنها ليست مضطرة إلى أمرين: الأول الذهاب بعيداً في العداء لإيران ومواجهة محور المقاومة، والثاني الاقتراب من إسرائيل والتطبيع معها. فهي تستطيع أن تكون على علاقة جيدة مع إيران، وألا تكون على عداء مع محور المقاومة في الوقت الذي تتحالف فيه مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكن على أن تعيد إنتاج تلك العلاقة مع الولايات المتحدة بما يجعلها أكثر استقلالية، وأبعد عن الارتهان للابتزاز الأمريكي، وذلك من خلال توفير شبكة علاقات إقليمية -بما فيها مع إيران- تقوم على استراتيجية المصالحة والتعاون والشراكة، والابتعاد عن استراتيجية العداء والمواجهة، والحروب التي أثبتت فشلها.                                                                                    

وإن قيل إن هناك نفوذاً إيرانياً متزايداً في المنطقة، لا بد من مواجهته قبل أن يتنامى أكثر ويبلغ مداه؛ فالجواب نعم، يوجد مشروع لمحور المقاومة –وإيران في صلبه- في المنطقة، يتمثل في مواجهة الهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولقد أثبتت التجارب نجاح خيارات هذا المشروع وسياساته في تحقيق تلك الأهداف التي يسعى إليها. وما ذاك النفوذ المتزايد لذاك المحور إلا تعبير عن تقبل شعوب هذه المنطقة ومجتمعاتها للمشروع الذي يحمل وسياساته، وتقديراً لانجازاته التي يحقق.

وفي هذا أجد من الحكمة أن أستعير كلام أبي الوليد عتبة بن ربيعة مع قريش، لكن مع إسقاطه على واقع اليوم وتحدياته، بأن يقال لتلك الأنظمة الخليجية أن خلّوا بين محور المقاومة وبين مشروعه الهادف إلى تحرير فلسطين ومواجهة أمريكا، فإنّ إصابته إسرائيل، وهزم في مواجهة أمريكا، فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على أمريكا، وينجح في تحرير فلسطين، فنصره نصركم، وعزه عزكم، وسوف تكون شعوبكم أسعد الناس به. وسوف يكفيكم شرفاً أنكم لم تكونوا في المعسكر الذي يعادي المقاومة ومحورها، ولم تحولوا بينها وبين تحقيق نصرها. وإن كنتم تشكون في ذلك، فعودوا إلى تجارب المقاومة في لبنان، التي كانت تهب النصر تلو النصر لجميع العرب والمسلمين، وغيرهم ممن شارك فيه وممن لم يشارك، وهي لن تبخل في أن تفعل الأمر نفسه عندما تظهر على إسرائيل، وسوف تعتبركم شركاء فيه، فقط لأنكم رفضتم الانسياق مع المشروع الأمريكي، وإن لم تشاركوا في فعل المقاومة.

عدد قراءات المقال : 686