المقاومة والتباس الفصل بين الداخلي والخارجي

فعل المقاومة والتباس الفصل بين الداخلي والخارجي

                                    

تبرز الآن أكثر من مقاربة لفعل المقاومة وأولوياتها، فيما يتصل بالدفاع عن لبنان وحمايته من الأخطار الخارجية سواءٌ كانت إسرائيلية أو إرهابية، أو ما يتصل منها بالعناية بالشأن الداخلي وقضاياه من معيشية واقتصادية وتنموية واجتماعية وغيرها، لتخلص بعض تلك المقاربات إلى نتيجة مفادها الالتباس بنوع من الفصل بين الدفاع عن لبنان وأرضه، وبين مجمل تلك القضايا الداخلية والمعيشية وغيرها، أو ليُعمل من خلال بعض تلك المقاربات على إيجاد نوع من التنافي بين ذلك الشأن الذي يتصل بحماية لبنان وأمنه، وبين تلك الأولويات الاجتماعية والتنموية، التي ترتبط بهموم الناس وأولوياتها.

ما نريد قوله في هذه المقالة هو إن توظيف هذا الالتباس بالفصل للقول إن المقاومة تعنى بذلك الشأن الدفاعي على حساب أكثر من شأن داخلي معيشي أو تنموي أو اجتماعي، أو للقول إن المقاومة لم تعط الشأن الداخلي الاهتمام المطلوب؛ هو فعل غير منطقي، ولا يستقيم مع الوقائع والحقائق.

قد يصح أن يطلب من المقاومة المزيد من الاهتمام بالشأن الداخلي، والعناية أكثر ببعض القضايا التي تهم المواطن ومعيشته والأزمات التي يعاني منها. أما القول إن المقاومة لم تكن تعطي هذا الشأن الداخلي اهتمامها نتيجة انصرافها إلى همّ الدفاع عن لبنان وحمايته؛ فهو قول يجافي الحقيقة، لأن عناية المقاومة بالشأن الخارجي من ناحية الدفاع عن لبنان وأمنه وسيادته وثرواته، هو عينه، وبالمستوى نفسه وأكثر عناية بالشأن الداخلي في مختلف جوانبه المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية وغيرها.

إنّ ما نريد قوله هو إنّ المقاومة بدفاعها عن الوطن، وحماية أمنه؛ كانت -وما زالت- من أكثر العاملين على الشأن الداخلي على الإطلاق من حيث مساعدتها على توفير جميع الظروف والشروط الملائمة لتنمية الاقتصاد، وتحسين الوضع المعيشي، وإيجاد الفرص والمناخات الملائمة للاستثمار والعمل، وتحقيق التنمية، وانتظام الشأن العام، وعمل المؤسسات، وقيام الدولة، وغيرها.

بهذا المعنى لا يصح القول إن المقاومة كانت بعيدة عن الشأن الداخلي وقضاياه ثم تبدّلت أو تطورت رؤيتها، بل الصحيح القول إن مجمل ما يتصل بالشأن الداخلي كان في صلب عمل المقاومة وأولوياتها، وخصوصًا من حيث إنها كانت تدافع عن الوطن، وتحميه من العدوان، وتصونه من الإرهاب. وما يحصل هو مزيد من الاهتمام بقضايا داخلية نتيجة صيرورة تراكمية وظروف وملابسات لا مجال لشرحها في هذه المقالة.

هنا ألا يصح القول إن ردع إسرائيل عن العدوان على لبنان هو أمر يخدم اللبنانيين في حياتهم؟ ألا يجب القول إن حماية لبنان في أمنه، وحماية أمن اللبنانيين، هما أمران يخدمان معيشة المواطنين، ورزقهم، ولقمة عيشهم؟ ألا ينبغي القول إن قوة المقاومة التي تمنع الاعتداء على لبنان، واحتلال أرضه، وسرقة ثرواته؛ تسهم في توفير أكثر من شرط ومناخ لنمو الاقتصاد، وتحقيق التنمية، وإيجاد فرص العمل؟ ألا يلزم البوح بأن الحفاظ على اللبنانيين وأرضهم وعرضهم من التهديد التكفيري، هو الشرط البديهي والأساس لأي حديث آخر له علاقة بالاقتصاد، والتجارة، والمعيشة، والتنمية، والعمل، ولقمة العيش، ومصالح المواطن وحقوقه وأرزاقه؟ أليس من الصحيح القول إن فعل المقاومة على مدى عقود من الزمن من التحرير إلى الردع كان له الدور الأساس في قيام الدولة، وإقامة مؤسساتها، وانتظام الحياة العامة من حيث توفير جميع الشروط المساعدة على انتعاش الشأن العام وازدهاره، وتهيئة جميع المناخات والشروط التي تؤدي إليه؟

وما نقول ليس كلاماً طوباوياً، فإذا أردنا أن نعرف ما الذي يعنيه فعل المقاومة فلنعد إلى زمن الاحتلال، وهو ليس منا ببعيد، فهل كان هناك من دولة؟ وهل كانت هناك مؤسسات؟ كيف كانت حياة اللبنانيين في ذلك الزمن؟ وهل بقي لديهم آنذاك من رزق أو عيش كريم؟ هل بقيت لهم أسواقهم، وتجاراتهم، وأعمالهم؟ وهل كان لديهم من شعور بالأمن على حياتهم، وحياة أسرهم، وأولادهم، وأرزاقهم، ومجمل شؤونهم؟ وقبل كل شيء ماذا عن عزّتهم الوطنية وكرامتهم الوطنية، التي ديست في زمن الاحتلال الإسرائيلي وعملائه؟ فإذا عدنا بالذاكرة إلى تلك الحقبة وأزماتها ومآسيها، ثم انتقلنا إلى ما بعدها وما آلت إليه أوضاع اللبنانيين في زمن التحرير وما بعده؛ نستطيع أن ندرك عندها ما الذي يعنيه فعل المقاومة في مجمل القضايا الداخلية التي تتصل بمعيشة اللبنانيين، وحياتهم، ومختلف شؤونهم.

 وما ندلي به ليس كلاماً نظرياً، فإذا أردنا أن نعي دور الفعل المقاوم ونتائجه فيما يتصل بالقضايا المعيشية والحياتية والاقتصادية والاجتماعية، وتأثيره على حياة المواطنين وأمنهم وأرزاقهم، فلندر الطرف إلى جغرافيا الإرهاب التكفيري القريبة في بلاد الشام وغيرها، لنعرف ماذا بقي لأولئك الناس في المدن والبلدات التي دخلها ذاك الإرهاب، من حياة كريمة، أو أمن، أو أمان، أو فرص عمل، أو رزق يعتاشون منه، أو حرية يتنفسون منها، أو ... عندها نستطيع أن ندرك ما الذي تعنيه المقاومة، ويعنيه فعلها، وأهمية آثاره على مجمل أوضاع الناس المعيشية والحياتية، والنتائج التي يفضي إليها على أرزاقهم، وأملاكهم، وأمنهم، ومستقبلهم، ومستقبل أولادهم.

لذلك يصح القول إن الشأن الداخلي والاقتصادي هو شأن أمني بامتياز، وإن مجمل الأوضاع الحياتية والاجتماعية والمعيشية للناس وجميع المواطنين ترتبط ارتباطاً جوهرياً ووثيقاً بالشأن الأمني والدفاعي، الذي يحمي الوطن والأرض والعرض من الإرهاب التكفيري، أو الاحتلال الإسرائيلي، ويردع أي عدوان محتمل على الوطن وشعبه، ويوفر جميع المناخات الأمنية والشروط الحمائية (حماية الوطن وأمنه)، التي تسهم في نمو الاقتصاد، وتوفير فرص العمل، وانتظام الشأن العام، وتحقيق الأمن، وتهيئة جميع الشروط المناسبة للناس لاكتساب معيشتها، وتحصيل أرزاقها، واستقرار حياتها العامة، وشعورها بالأمن والأمان، وشعورها أيضاً بالكرامة الوطنية والعزة القومية.

وإذا كانت المقاومة بقدراتها وإمكانياتها تسهم بقوة في تحقيق جميع ما تقدّم، فهذا يعني أن المقاومة بدفاعها عن لبنان، وردعها للعدوان، ودورها في حمايته من الإرهاب؛ إنما تقوم بدور أساسي، وجوهري، وغاية في الأهمية في جميع ما يرتبط بالشأن الداخلي للمواطن، من حيث رزقه، وعمله، وأمنه، وأمانه، واقتصاده، واجتماعه، وحاضره، ومستقبله، ومجمل أوضاعه المعيشية والحياتية، بحيث يمكن القول إنه لولا هذا الدور لكنا نرى اليوم مدننا وقرانا على شاكلة ما نراه في دول الجوار من خراب، ودمار، ومآسٍ، وافتقاد للأمن ، وانعدام للحياة العامة، وضياع للانتظام العام.

وغاية البيان، إن المقاومة ومن خلال دورها وفعلها في مواجهة جميع التهديدات الخارجية للوطن، وأمنه، وأرضه، وثرواته هي في قلب الحدث، تخدم المواطن، وتحمي رزقه، وتذود عن أرضه، وتصون عرضه، وتحفظ كرامته، وتوفر أمنه، وتهيئ سبل معيشته، وتمنحه شرط كسبه، وتعينه على شؤون حياته. إن مقاومة أنجزت وتنجز ما فعلته وتفعله المقاومة في لبنان لدخلت الوجدان والتاريخ، ولأضحت قيمة وطنية، تعلو على سفاسف السياسة، ولأصبحت مفخرة قومية تسمو على صغائر الأمور. ولكن في بلد يتدنى فيه الخطاب، وينحدر فيه البيان، وتغلب فيه الطائفية، ويمتهن فيه الساسة استخفاف العقول، وتسميم الوعي؛ عندها تصبح المقاومة ودورها وجهة نظر يتبارى القوم في غمطها حقها، وتشويه دورها، وتزييف الحقائق عنها، مع أن الشاهد ليس بعزيز، والدليل غير مفتقر إلى صوابية نهجها، وصدقية رؤيتها. ونفيد مما تقدّم أن من يقابل الوفاء بالوفاء، والعطاء بالعطاء؛ إنما يعطي الخير لنفسه، والأمن لأهله، والحمى لولده، وأن من تأخذه حمية، أو تغلبة عصبية أو طائفية، أو تعميه صغائر الأمور عن عظائمها، أو يطيش عقله عند أدنى زيفٍ من قول؛ فإنما يجر الضرّ إلى نفسه، ويعين المتربص به. ولو تبصّرنا لبصرنا معنى الوفاء للمقاومة، وأهمية أن نكون لها عندما تكون لنا، وأننا باختيارنا نختار الوطن الذي نريد، حينما نمارس دوراً في مضمار واجب، وطناً عصياً على الاحتلال، محمياً من الإرهاب، ينعم أهله بأمان من عيش، يعين على حسن معيشة وحياة كريمة، ولأدركنا أن المقاومة صنو عيش كريم، في وطن تثقل عليه محن، تهدده فتن، تراوده من خارج، لا تصل إلى مقصدها، إن لم تجد لها مجيباً من داخل، ولعلمنا أن المقاومة في وطننا هي بقية عيشنا وعزتنا وحياتنا الكريمة، وأنها درّة التاج في هذا الوطن، وأنها في قلبه من حيث هي على حدوده وثغوره. هذا إذا وعينا دور المقاومة، وجدلية العلاقة فيه بين الداخل والخارج.

 

عدد قراءات المقال : 713

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

703659 زائـــــر منذ 01-02-2015

موقع الشيخ الدكتور محمد شقير