هل تستغني العدالة عن البيان الديني؟

هل تستغني العدالة عن البيان الديني؟

إنّ من الأهمية بمكان طرح هذا السؤال حول العلاقة بين العدالة والدين، من جهة إمكانية أن تستغني العدالة عن البيان الديني، وعلاقة هذا البيان بالعدالة وقيمها وقضاياها ومجمل مفرداتها.

يوجد جوابان على هذا السؤال، الجواب الأول: يذهب الى القول بأن العدالة باعتبار كونها أمراً فطرياً، فهي لا تحتاج الى الدّين والبيان الدّيني، إنما يمكن لمن يتمسك بالعدالة أن يدرك جميع مفرداتها بمعزل عن الدّين، وأن يعمل على إقامتها دون أيّة معونة منه ومن بيانه، حيث جاء في هذا السياق: "العدالة مفهوم سابق على الدّين، وليس الدّين هو محكّ العدالة أو المعرّف والمحدّد لها، بل العدالة هي التي تقيّم ديناً ما. العدالة تدرك دائماً على نحو فطري، والإنسان قادر بفطرته على معرفة العدالة في كل زمن[1]".

الجواب الثاني: ويذهب الى القول بأن العدالة لا يمكن أن تستغني عن الدّين والبيان الدّيني، وإنّ فطرية العدالة وإنسانيتها لا تعني استغناء العدالة عن مجمل ما جاء في الرسالات الدينية في العدالة، والتي أتى بيانها ليشبع تطلّع الفطرة إلى العدالة، وليهدي توقها إلى إقامتها، وليستجيب إلى ميلها لإدراك مجمل المفردات والقضايا، التي ترتبط بالعدالة وتسييلها.

هنا تصبح العلاقة بين الدّين والفطرة علاقة تكاملية، وليست استقلالية. أي إنّ الفطرة تتكامل مع الدين، لكنّها لا تستغني عنه. فطرة العدالة تتلاقى مع بيان العدالة، وهما يتكاملان معاً للوصول إلى صناعة إنسان العدالة، وبناء مجتمع العدالة. أمّا أن تستقلّ الفطرة عن الدّين، فهذا لا يخدم العدالة، ومشروعها، وأهدافها.

وعليه، يُطرح السؤال هنا، فيما يمكن أن يقدّمه الدّين وبيانه في موضوع العدالة وإقامتها.

قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من القول إنّ للعدالة واقع بالمعنى المعرفي، أي إنّ هناك واقعاً عدالتياً قد نصيبه، وقد نخطئه. فإذا أصبناه في فهمنا، نكون قد وصلنا الى العدالة، وحصلنا على المصالح والمنافع الكامنة فيه. أمّا إذا أخطأناه، نكون قد فقدنا تلك المصالح والمنافع التي تترتّب عليه.

وإذا كان هناك توافق على إنّ العدالة هي: إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه؛ فهذا يعني أن العدالة تستلزم وجود منظومة حقوقية تبيّن للجميع حقوقهم، حتى يمكن أن يُعطى لكلٍّ حقّه في سياق تحقيق العدالة وإقامتها.

بناءً عليه يمكن القول، إنّ ما يقدّمه البيان الديني في موضوع العدالة يمكن إجماله فيما يلي:

  1. يقدّم البيان الديني منظومته الحقوقية الشاملة لجميع الحقوق من فردية واجتماعية.. هذه المنظومة التي تتميّز بجملة من السمات والخصائص، التي تجعل منها منظومة فاعلة، وقادرة على الوصول إلى تلك الأهداف، والغايات، والمصالح الكامنة في تطبيق العدالة وتحقيقها.

هذا ويستطيع البيان الديني من خلال هذه المنظومة أن يتجاوز العائق التجريدي للعدالة، باعتبار إنّ إحدى أهم معوقات العدالة هي تجريديّتها، حيث إنّه يمكن من خلال وجود هذه المنظومة أن يتمّ تجاوز هذا العائق، للوصول بالعدالة الى مجالها التطبيقي، وبعدها العملاني.

وهنا عندما تأتي الى البيان الديني ذي الصلة، نجده زاخراً بجميع تلك المضامين الحقوقية وفرادتها، والتي تُعدّ بمثابة البعد الحقوقي والعملاني للعدالة. لكن يمكن القول، وبناءً على ما ذُكر، إنّ هذه المضامين تحتاج الى أن يُعمل عليها، وتُستثمر معانيها، لتُحوّل تالياً إلى ثقافة فردية، ومجتمعية قادرة على الوصول بالمجتمعات إلى مديات العدالة، وغاياتها.

2- يوجد في النص الديني بعدٌ قيمي وأخلاقي مشبع وعميق، وهو ما يوفّر الدافع الأخلاقي لإعمال العدالة وتطبيقها، باعتبار إنّ العدالة تحتاج إلى قيم العدالة، وأخلاقيات العدالة، حيث لا يمكن الوصول إلى العدالة وغاياتها من دون توفّر أخلاقياتها، والتربية على قيمها، وصيرورتها جزءاً من أخلاقيات المجتمع، وثقافة أبنائه، تتقدّمان على أيّة أخلاقيات أخرى، أو ثقافة مغايرة.

3- هناك بعدٌ كلامي في الدّين، يُعطي قيمة خاصة للعدل وفعله، ويُضفي عليه معانٍ فريدة وبعيدة. هنا يصبح العدل من أهمّ الطرق إلى الله تعالى، وتصبح عبادة الله بالعدل وفعله من أشرف العبادة. هنا تضحى إقامة العدل السبيل الأمثل إلى معرفة الله العادل. هنا يكون يوم العدل (يوم القيامة) خير دافع إلى فعل العدل، لأنه اليوم الذي يثاب فيه على كلّ عدل، ويحاسب فيه على كلّ ظلم.

وتستطيع القول بعبارة موجزة، إنّ الدّين (والبيان الديني) يوفّر مرتكزاً ميتافيزيقياً للعدالة، مرتكزٌ له آثاره المهمّة على تبيين العدل وتحقيقه، بما لا يمكن أن نجده لدى أيّة منظومة فكرية أخرى تفتقد لهذا المرتكز. إنّها ميتافيزيقيا العدالة، التي تترتّب عليها آثارها النفسية، والأخلاقية، والتربوية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وفي شتى الميادين.

4-يمكن للبيان الدّيني أن ينتج فكر عدالة، بل ومنظومة فكرية تقوم على أساس من العدالة وتحاكيها، وتكون قادرة على الوصول بها إلى أهدافها وغاياتها.

إنّ العدالة تحتاج إلى منظومة فكرية تلامس المعاني الحقّة للعدالة، وتكون قادرة على بلوغ المنافع والمصالح الواقعية الكامنة فيها. وهنا يستطيع البيان الديني الأصيل أن يعمل على صناعة تلك المنظومة، وأن يبني ذلك الصرح الفكري الهادف، والقادر على نقل العدالة الى أبعادها وميادينها المختلفة، بما يحقّق مجمل أهدافها ومقاصدها.

5-يؤسّس البيان الديني لصناعة علوم إنسانية العدالة، أي تلك العلوم التي تقوم على أساس من تلك العدالة، وتتماهى معها، وتكون الحامل الفكري لتطبيقها.

هنا قد لا يكون من السهل بمكان صناعة تلك العلوم، باعتبار إنّ من أهم معوقات العدالة ومزالقها احتباسها النظري، وافتقادها للدافع القيمي، وانحرافاتها الفكرية التي تؤدّي بالعدالة الى خلاف أهدافها ومقاصدها.

وفي هذا المورد يمكن للمنظومة الدينية أن تنتج تلك العلوم(علوم العدالة)، لما تملكه تلك المنظومة من منهجيةٍ، ومن مادةٍ خصبةٍ تسعفها على إنتاج تلك العلوم، إذا ما عُمل على الارتكاز على المعاني الأصيلة في الدّين، وإذا بُذل جهدٌ استثنائي في هذا الإطار، حيث لا مانع هنا من الاستفادة من مجمل تلك التجارب الإنسانية التي حكت قيم العدالة، واستطاعت أن تحاكيها في الواقع.

وبناءً على جميع ما تقدّم، يمكن القول إنّ البيان الديني هو بيانٌ قادرٌ على بلوغ واقع العدالة، وملامسة مقاصدها، لما يحويه هذا البيان في أبعاده الحقوقية، والقيمية، والأخلاقية، والكلامية، والفكرية، والعلم إنسانية من معانٍ، ومضامين، قادرة على إشباع العدالة معرفياً، وثقافياً، وفي شتى المجالات، ومؤهّلة لصناعة أيديولوجية عدالة نشطة، وفاعلة في بناء إنسان عدالة، ومجتمع عدالة، بل ودولة عدالة. هذا إذا ما عُمل دائماً على تلمّس المعاني الأصيلة في الدّين وبيانه، وتجنّب جميع مؤثرات التراث السلطاني، الذي شوّه العدالة ومعانيها، وأساء كثيراً الى بيانها؛ وإذا ما تمّ التعالي على أيّة تجربة دينية، تدّعي انتماءها إلى الدّين وبيانه، لتغدو المرجعية عدالة الدّين وبيانه الأصيل، وليس تلك التجارب السلطانية، التي تستّرت بالدّين، وشوّهت معانيه، وفي جوهرها العدالة وتطبيقها.

ومن هنا قد لا يكون صحيحاً القول باستغناء الاجتماع الإنساني عن البيان الديني في موضوع العدالة وإقامتها، تحت دعوى فطرية العدالة وإنسانيتها. لأنّ فطرية العدالة هي بمعنى وجود الميل الفطري إليها، والاستعداد لوعيهان ووجود إدراك عام لها. أمّا المعرفة الشاملة والكاملة بالعدالة، التي تستوعب جميع قضاياها، ومفرداتها، وعناصرها، بل ومنظومتها الفكرية، والقيميّة، والتشريعية..؛ فهذا مما لا يُستغنى فيه عن البيان الديني، والرسالات الإلهية، التي كان هدفها على مدار التاريخ أن يقوم الناس بالعدل، والتي سعت إلى بيان مجمل ما يتصل بذلك العدل وقيمه، والتي سعى رجالها الى إقامة العدل وتحقيقه بين الناس، وإلى إبلاغ معانيه لهم، وذلك بهدف الوصول إلى إنسان العدالة، ومجتمع العدالة.

وهذا ما يفهم من العديد من النصوص الدينية والقرآنية في هذا المجال:

يقول الله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[2]"

ويقول تعالى:"وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ[3]"

ويقول تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[4]"

وهذا ما يعني أنّ مقولة العدل هي جزء أساس من مقولة الإيمان، أي إنّ من الإيمان الإيمان بالعدل، وإنّ مقولة العدالة ليست مفارقة لمقولة الإيمان.

وهذا يتطلّب معالجة كل ذلك التشويه المعرفي الذي ساهم في الفصل المنهجي الكامل بين مقولة الإيمان ومقولة العدالة، ليُعمل على الوصل بين تلكما المقولتين، وليصبح الإيمان بالعدل مدخلاً الى العدل بالإيمان، أي  ليصبح إدراك إنّ مقولة العدل في جوهر الإيمان أساساً لممارسة العدل بناء على مقولة الإيمان، وما جاء في الدّين وبيانه الأصيل.

 

[1] - كديور محسن، القراءة المنسية، تعريب د. سعد رستم، الانتشار العربي، بيروت، ط1، ص113.

[2]- سورة الحديد، الآية 25.

[3]- سورة الانبياء، الآية 47.

[4]- سورة آل عمران، الآية 21.

عدد قراءات المقال : 723

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

703555 زائـــــر منذ 01-02-2015

موقع الشيخ الدكتور محمد شقير