بناء العلوم الإنسانية على أساس من العدالة الوحيانية

بناء العلوم الإنسانية على أساس من العدالة الوحيانية

الضرورة والمرتكزات المعرفية وإشكالية العلاقة مع الشريعة

 

قد يبدو واضحاً إنّ العلوم الإنسانية تستولد من خلال مخاض فكري ومعرفي، يؤدّي إلى إنتاج الأفكار والنظريات، التي تتأثّر إلى حدٍّ كبير بطبيعة ذلك المخاض وخصوصياته الفكرية والمعرفية، حيث لن تكون تلك العلوم معزولة عن تلك الخصوصيات، والتأثّر بها، والتفاعل معها على أكثر من مستوى (معرفي فلسفي..)، وفي أكثر من مجال (اجتماعي، سياسي...).

وهذا ما يدعونا إلى التنبّه من مجمل تلك العلوم الإنسانية التي وفدت إلينا من الخارج، والتي كانت نتاج أكثر من مخاض فكري ومعرفي واجتماعي حصل في الغرب، حيث أتت تلك العلوم لتحكي خصوصية تلك المخاضات، ولتحمل تلك القيم التي أخذت مداها، وبسطت سلطانها في ذلك الفضاء الفكري الغربي.

وإذا كان كان هناك أكثر من اختلاف وتباين على مستوى القيم والأسس الفكرية والمعرفية بين ما هو مُتبنّى إسلامياً، وما هو مُتبنّى غربياً؛ فهذا يتطلّب أكثر من مقاربة تجاه تلك العلوم الإنسانية المستولدة غربياً، وأكثر من مبادرة إلى بناء تلك العلوم الإنسانية على أساس من العدالة الوحيانية.

واحدة من تلك القيم والأسس الفكرية ما يرتبط بقيمة العدالة الوحيانية، وأهميتها، والدور الملقى على عاتقها في بناء علوم إنسانية تحمل في أحشائها معاني العدالة، وتؤدّي في وظائفها إلى تحقيق أهداف العدالة، وتوصل في نتائجها إلى إقامة العدالة في الاجتماع الإنساني في مختلف ميادينه الاجتماعية وغيرها. ليكون هذا البحث استجابة لتلك الإشكالية، والتي تتمحور حول ضرورة ذلك الفعل (البناء)، وأهميته، والمرتكزات المعرفية التي يستند إليها، وصولاً إلى البحث في تلك العلاقة ما بين الشريعة والعدالة الوحيانية، وأهم الإجابات التي يمكن أن تطرح في هذا السياق.

  • العلوم الإنسانية الوحيانية،الضرورة والأهمية:

بناءً على ما تقدّم، توجد أهمية كبيرة للعمل على بناء علوم إنسانية تقوم على أساس من قيمة العدالة ومحوريتها، وتعبّر عنها، وتسهم في تحقيقها، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: الدور المهم الذي تقوم به العلوم الإنسانية في بناء الاجتماع العام، وثقافته، وأنماط علاقاته... فإذا ما كانت هذه العلوم علوم عدالة، فسوف تسهم تالياً في بناء ذلك الاجتماع العام على أساس من تلك العدالة ومعانيها؛ وأمّا إذا ما كانت تلك العلوم مفارقة لقيمة العدالة بمستوى وآخر، فسيؤدّي ذلك إلى مفارقة ذلك الاجتماع للعدالة.

ثانياً: إنّ العلوم الإنسانية التي يُعمل على حضورها وتموضعها هي إلى حدًّ بعيد تلك العلوم الإنسانية التي وفدت إلينا من الغرب، وإذا كنّا نرى في تلك العلوم الوافدة على أنّها لم يتمّ بناؤها على أساس من تلك العدالة الوحيانية، كما يجب أن يحصل في المفهوم الإسلامي؛ فهذا يستدعي بناء تلك العلوم الإنسانية من خلال مخاض فكري إسلامي يقوم على أساس من تلك القيم الإسلامية وفي جوهرها العدالة، وذلك لتجنّب أيّة تأثيرات، قد تكون متنافية مع تلك القيم، تأتي من تلك الجينات المعرفية التي تحملها تلك العلوم الوافدة.

وعلى ما تقدّم، نستطيع القول بأنّه توجد أهمية كبيرة لبناء علوم إنسانية على أساس من العدالة الوحيانية، بل إنّ هذه الأهمية ترقى إلى حدّ الضرورة، إذا ما التفتنا إلى موقعية العدالة الوحيانية في الرؤية الإسلامية، هذه الموقعية التي تتبدّى فيما يلي:

  1. إنّ الرؤية الكونية الإسلامية هي رؤية عدالة.
  2. إنّ فلسفة التاريخ ونهايته في المنظار الإسلامي هي فلسفة عدالة.
  3. إنّ الهدف الأساس للرسالات الإلهية على مدار التاريخ هو إقامة القسط "...ليقوم الناس بالقسط"([1]).
  • -المرتكزات المعرفية لعملية البناء:

لكن هنا يبرز سؤال – بناءً على هذه الأهمية وتلك الضرورة – يحمل تبريره المنطقي، وهو: إنّ ما تقدّم من معطيات يفترض القدرة على عملية بناء العلوم الإنسانية، التي تستند إلى العدالة الوحيانية؛ وعليه، ما هي تلك الأسس أو المرتكزات التي يمكن الاعتماد عليها من أجل القول بإمكانية تحقّق ذلك، والقدرة عليه؟

في مقام الجواب على هذا السؤال، يمكن الحديث في المرتكزات التالية:

  1.  إشتمال النصوص الدينية على مجمل ما يرتبط بتلك العدالة، ومعانيها، ومعاييرها، وما تحتاج إليه، إن لم يكن على نحو الفعلية، فبالحدّ الأدنى على نحو القوّة (بالمعنى الفلسفي)، ولو في جملة تلك المعاني والمضامين. وهذا المعنى نجده في العديد من النصوص الدينية، من قبيل قول الإمام الصادق(ع): "ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة"([2]).
  2. منهجية الاجتهاد وقدرتها على ممارسة الاجتهاد الرؤيوي، أي الاجتهاد الذي يفضي إلى إنتاج رؤى نظرية في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وذلك من خلال ممارسة الاستنباط في النص الديني، والحفر المعرفي في طبقاته.
  3. تجيير أي نتاج معرفي إنساني من أي مصدر أتى في سياق ممارسة الاجتهاد الرؤيوي وتحفيزه، بمعنى استثمار مختلف نظريات العلوم الإنسانية من غربية وغيرها في ممارسة الاستنباط الرؤيوي من النص الديني. وهذا ما يتطلّب أمرين:

الأول: تحويل أي معطى علم إنساني إلى أداة لممارسة الاستنطاق المعرفي للنص الديني، والكشف عن مضامينه، والرؤية الكامنة فيه.

الثاني: إمتلاك معايير معرفية، يمكن من خلالها تمييز جميع نتاج العلوم الإنسانية ومعطياته، لتبيّن ما ينسجم منها مع العدالة الوحيانية، وما لا ينسجم منها معها.

وهنا لا بدّ من الإلفات إلى ما يلي، وهو إنّ ما تقدّم بيانه، فيما يرتبط بالعلوم الإنسانية المختلفة وتجييرها؛ لا يعني إعادة كتابة تلك العلوم ونظرياتها بلغة وحيانية (أو إسلامية على وجه التحديد). أي إنّ التغيير، أو التجيير ليس عبارة عن عملية شكلية تتجاوز المضمون، أو تركّز على الصدف وتتجاهل الجوهر؛ كما لا يعني ذلك أن يُعمل على ممارسة نوع انتقائية غير منهجية من تلك العلوم، لأخذ أكثر من معطى منها بهدف إعادة تركيبه، وتقديمه في قالب مختلف، لا يلامس إلى حدٍّ البعيد الاختلاف الجوهري والمضموني عن تلك العلوم، التي تمّ الانتقاء منها والأخذ عنها.

إنّ ما هو مطروح في هذا البحث هو إنتاج علوم إنسانية العدالة على أساس من هداية الوحي ومعانيه وقيمه، حيث تتوافر جميع عناصر هذه العملية من المصدر (النص الديني)، إلى المنهج (المنهج الاجتهادي)، إلى شروط التحفيز على الإنتاج (العلوم الإنسانية المختلفة، والتحدّيات المختلفة التي تفرضها)، إلى الحاجة والضرورة لهذه العملية للأسباب التي ذكرناها آنفاً.

وليس المطروح هنا القيام بنوع أسلمة للعلوم الإنسانية بالمعنى الذي يطرح في أكثر من ميدان، والذي قد يحيل هذه العملية إلى مجرد تغيير شكلي يفتقد إلى التأسيس والتأصيل، والقدرة على إنتاج تلك المعاني والرؤى العلم إنسانية الكامنة في النص الديني وطبقاته المعرفية.

إنّ ما ذكر قد يصبح واضحاً وضرورياً، إذا ما التفتنا أكثر إلى أنّ جملة الأسس المعرفية التي تقوم عليها فلسفة العدالة قد تختلف بين نظرية وأخرى، وإذا أدركنا أنّ هذا الاختلاف يؤدّي إلى الكثير من الاختلافات بين نظريات العدالة في أكثر من مجال، وأنّ هذه الاختلافات بين نظريات العدالة تؤدّي – فيما تؤدّي إليه – إلى اختلاف مختلف التجلّيات والتعابير الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والمالية.. لتلك النظريات.

أي إنّ ما نوّد قوله هو إنّ الاختلاف المعرفي في إطار فلسفة العدالة ونظرياتها، لن يبقى في إطاره النظري والتجريدي، بل سوف يتحوّل إلى اختلاف اجتماعي، واقتصادي، ومالي، وسياسي، وثقافي، وأخلاقي، وغير ذلك فيما يرتبط بتطبيقات العدالة وتجلّياتها المختلفة.

ولنأخذ على سبيل المثال القضايا التالية، بهدف الإضاءة على ما نقصده من ذاك الاختلاف في الأسس والمرتكزات المعرفية والفكرية للعدالة وفلسفتها.

القضية الأولى: في العلاقة بين قيمة العدالة وقيمٍ أخرى، كالحرية مثلاً، حيث نجد أنّ هذه العلاقة تقوم في الفكر الإسلامي على تقدّم العدالة على الحرية. بمعنى إنّ العدالة هي التي تقيّد الحرية وليس العكس. ففيما لو حصل تزاحم ما بين القيمتين، فإنّ القيمة التي تقيّد (بالكسر) هي العدالة، والقيمة التي تقيَّد (بالفتح) هي الحرية.

وهذا بخلاف ما هو موجود في الفكر الرأسمالي الذي أطلق العنان للحرية على حساب العدالة، وخصوصاً عندما تكون تلك الحرية في الإطار الاقتصادي والمالي، فإنّنا نلحظ أنّ هذه الحرية - كما تمارس في المجتمعات الرأسمالية - قد أدّت إلى إيجاد اختلالات بنيوية في تلك المجتمعات على مستوى توزّع الثروات، وتمركزها بيد فئة قليلة جدّاً من الناس، مع ما لهذا الأمر من نتائج على المستوى السياسي، والاجتماعي إلخ، حيث أصبح كلٌ من المجتمع والدولة مرتهناً لدى تلك الفئة وثرواتها. بل إنّ العقل الرأسمالي قد ذهب أبعد من ذلك، عندما  عمل على تقديم تبريرات نفعية لتلك الاختلالات البنيوية مالياً واقتصادياً، ترى فيها مصلحةً للدولة والمجتمع، وأيضاً لتلك الفئات التي أصبحت رهينة لتلك الاختلالات، وضحيةً لها.

القضية الثانية: وهي وإن كانت ترتبط بتعريف العدالة وبنيتها المفهومية، لكن لا شك إنّ تعريف العدالة يشكّل أساساً مفهومياً تقوم عليه فلسفة العدالة، ومجمل نظرياتها.

وهنا نجد – على سبيل المثال – لدى أكثر من مقاربة علمانية أو غربية خلطاً بين مفهومي العدالة والمساواة، هذا الخلط الذي يؤدّي إلى أكثر من اختلال في البنية النظرية التي تقوم على أساس من ذاك الخلط المفهومي. هذا فضلاً عن الخلل والارتباك في مقام التطبيق، وفي تلك التطبيقات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها التي تستند إلى تلك البنية النظرية، واختلافها المفهومي.

كما نجد التباساً آخر في مفهوم العدالة يُفقده شموليته، ويُقصره على بعض المجالات دون أخرى، بحيث يقصر عن شمول تلك الأبعاد التربوية والأخلاقية وغيرها، في حين إنّ المفهوم الإسلامي للعدالة هو مفهوم يتميّز بشموليته لجميع الأبعاد القلبية والقالبية، أي الجوّانية والخارجية، بما يؤدّي إلى عدم خروج أي بعد اجتماعي، أو اقتصادي، أو سياسي، أو مالي، أو تربوي، أو سلوكي، أو ثقافي، إلخ عن إطار العدالة، وحدودها.

إنّ إحدى النتائج التي تترتّب على شمولية المفهوم (مفهوم العدالة)، هي إنّ حدوده المفهومية تكون قادرة على استيعاب جميع العلوم الإنسانية، بما يسمح بتحوّل ذلك المفهوم ومعانيه إلى مرتكز فكري لبناء تلك العلوم، بطريقة تحاكي فيها العدالة، وتحقّق أهدافها، وتؤسّس للقيام بجميع وظائفها.

إنّ إدراكنا بأنّ مفهوم العدالة هو مفهوم شامل لجميع تلك الأبعاد على اختلافها، يدفعنا إلى الاعتقاد بإمكانية بناء علوم إنسانية العدالة في مختلف المجالات ذات الصلة، بل ويحفّزنا على عملية البناء تلك، ويهدي سيرها، ويرسم مسيرها.

هذه الأمثلة وغيرها تؤكّد أنّ هذا الاختلاف على مستوى الأسس والمرتكزات – المفهومية وغير المفهومية – بين فلسفة العدالة ونظرياتها، التي تقوم على أساس من معاني الوحي وهدايته، وبين تلك التي تنبع من التجربة الغربية، وتستند إلى مرتكزاتها الفكرية؛ ليس بالاختلاف البسيط والشكلي، وإنّما هو اختلاف جوهري، يترك أثره على مجمل البنية النظرية ومختلف تجلّياتها.

  • العدالة والشريعة:

قد تطرح هنا هذه القضية وهي إنّه إذا أردنا أن نقيم العدالة، ويقوم الناس بالقسط؛ فيكفي أن نطبّق الشريعة، حتى نحقّق ذلك الهدف.

وعليه، ما هي الحاجة إلى بناء تلك العلوم الإنسانية على أساس من العدالة، طالما إنّ الشريعة وتطبيقها يغنينا عن تكلّف عملية البناء تلك لخدمة العدالة وإقامتها.

ومن الواضح هنا إنّ المقصود بتطبيق الشريعة في هذا المورد هو تطبيق تلك الأحكام الإلهية التي جاءت في مصادر التشريع الإسلامي (القرآن الكريم، والسنّة..) والتي تتمثّل بما احتوته المصادر والمراجع الفقهية، وخصوصاً في أبواب المعاملات وعناوينها المختلفة.

في مقام الجواب على هذه القضية، لا بدّ من القول بأنّ إقامة العدالة لا تقتصر على تطبيق الشريعة بالمعنى المذكور آنفاً، بل هي تمتدّ لما هو أوسع من ذلك. وهذا ما يتّضح من خلال بيان التالي:

  1. هناك مساحات عديدة مهمّة اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وإدارية، ومالية... لا يملؤها ذلك الحكم الإلهي (الفتوى)، وإنّما تحتاج إلى نوع آخر من تلك الأحكام وهو الحكم الولائي (الحكم، الحكم التدبيري)، والذي يصدر عن ولاية الأمر (ولي الأمر).

وهذا الحكم وإن كان يرتكز في جانبٍ منه على ذلك الحكم الإلهي، لكنّه يرتكز إلى حدٍّ بعيد على مرتكزات أخرى([3])، ترتبط بتلك الأبعاد الاجتماعية، والسياسية، والإدارية، والاقتصادية، والمالية... أي هو يرتكز على الواقع، والاجتماع العام، ومختلف أبعاده ومجالاته، وذلك من حيث تشخيص ذلك الواقع بشكل صحيح، وامتلاك الخبرة به بشكل علمي وهادف، من حيث تحقيق تلك الأهداف والقيم، التي تشكّل مرتكزات ذلك من خلال الوصل العلمي والهادف ما بين ذلك الواقع، وتلك المرتكزات على اختلافها.

وهذا ما يستدعي أن يكون لدينا علوم إنسانية العدالة، لأن تشخيص الواقع (الاجتماع العام) بشكل صحيح وهادف، يتطلّب أن يكون لدينا مجمل تلك العلوم الإنسانية، التي تساعد على عملية التشخيص تلك.

وهنا لا بدّ من القول بأنّ تلك العلوم الإنسانية كلما كانت علوم عدالة؛ كلّما كان تشخصيها تشخيصاً يؤسّس لإقامة العدالة، اولاً من حيث قدرتها على معرفة ما هو عدالة، وما هو مناف للعدالة في الواقع والاجتماع العام. وثانياً من حيث إسهامها في توصيف الحلول، والسياسات، والاستراتيجيات، التي يجب أن تعتمد لتسييل العدالة، وتحويلها إلى وقائع عملية، وقانونية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية....

  1. حتى لو أتينا إلى تطبيق الشريعة (الحكم الإلهي، الفتاوى)، فإنّنا نحتاج أيضاً إلى علوم إنسانية العدالة، وذلك لأنّ ذاك التطبيق يستلزم الوصل مع ذاك الواقع، وذلك الوصل مع ذاك الواقع يجب أن يكون وصلاً تترتّب عليه غاياته، وقادراً على تجنّب أية نتائج أخرى ليست مطلوبة في عملية التطبيق تلك. وهذا ما يستدعي المعرفة الهادفة بالواقع، والخبرة العلمية فيه، وفي جميع مجالاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمالية والإدارية وغيرها، حتى نستطيع تمييز الوقائع، وتشخيصها، ومعرفة ما ينسجم منها مع القيم والموازين الوحيانية، وما لا ينسجم منها معها، وفي جوهر تلك القيم والموازين العدالة الوحيانية؛ وذلك وصولاً إلى تحديد كيفية التعامل مع تلك الوقائع، وتوصيف حلولها.

وهذا ما يتطلّب ان يكون بحوزتنا منظومة علوم إنسانية تستند - فيما تستند إليه – إلى العدالة الوحيانية، حتى يمكن لها أن تقوم بجميع تلك الوظائف المطلوبة منهان والملقاة على عاتقها، من التشخيص الصحيح للوقائع، إلى التمييز الحقّ بين معطياتها، إلى الإسهام في توصيف التعامل معها، وتقديم الحلول لها.

ولذلك ينبغي أن تكون تلك المعرفة معرفة حقّة وصحيحة، حتى تؤدّي إلى استنتاجات صحيحة وحقّة في سياق ذاك التطبيق. ومن هنا يمكن القول  بشكل موجز، إنه إذا كانت العلوم الإنسانية هي المدخل إلى معرفة ذاك الواقع بتلك الكيفية، فهذا يعني أنّه كلّما أمكن لها أن تقوم بذلك الدور بشكل صحيح وهادف، كلما وإنّها في المقابل كلّما فارقت تلك القيم كلّما أدّى ذلك إلى خلاف تلك الغايات المرجوة منها.

 

الخاتمة:

لقد اخترنا هذه الاشكالية التي تتصل ببناء العلوم الإنسانية على أساس من العدالة الوحيانية، من حيث أهمية هذا الموضوع  وضرورته، وإمكانيته المعرفية، وجملة تلك الأسس والمرتكزات المعرفية التي تؤسس لذلك الفعل ونتائجه، وصولاً إلى مناقشة دعوى الاستغناء عن ذلك البناء وأهميته من خلال تطبيق الشريعة وإقامة أحكامها، حيث تعرضنا إلى العديد من الأدلة التي يمكن أن يُستفاد منها أن تطبيق الشريعة لا يغنينا عن بناء  تلك العلوم الإنسانية على أساس من العدالة الوحيانية، وضرورة هذا الفعل.

هذا ونخلص من مجمل ما تقدّم إلى النتائج،  والخلاصات التالية:

  1. توجد ضرورة تمليها جملة من الأسباب لبناء علوم إنسانية العدالة على أساس من العدالة الوحيانية، ومعانيها، ونصوصها، ودلالاتها، كما وردت في الدين الإسلامي، ومصادره الأصيلة.
  2. إنّ أهم تلك الأسباب تكمن في أمرين: الأول، ويتمثّل في الدور الغاية في الأهمية، التي تقوم به تلك العلوم في بناء الاجتماع العام، وجميع ميادينه. والثاني، ويتمثّل بضرورة العمل على تجنّب تأثيرات تلك العلوم الإنسانية الغربية المفارقة في العديد من جوانبها لقيمة العدالة ومعانيها.
  3. توجد إمكانية معرفية لعملية البناء تلك، أولاً لاشتمال النص الدّيني على تلك الأبعاد المعرفية للعلوم الإنسانية. ثانياً لما تملكه منهجية الاجتهاد من قدرة على ممارسة الاستنباط الرؤيوى، والعلم إنساني. وثالثاً، وجود العوامل المحفّزة على ممارسة ذلك الاستنباط، والمتمثّلة في تلك التحدّيات التي تمتلكها العلوم الإنسانية في نسختها الغربية.
  4. إنّ من مظاهر تلك التحدّيات الأمر التالي، وهو كون الاختلاف بين فلسفة العدالة الوحيانية ومرتكزاتها المعرفية، وبين فلسفة العدالة الغربية ومرتكزاتها المعرفية؛  اختلافاً جوهرياً، يترك أثره على مجمل البناءات الفوقية لتلك المرتكزات المعرفية، بما في ذلك جملة تجلّياتها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها.
  5. إنّ دعوى الاستغناء بتطبيق الشريعة عن بناء علوم انسانية العدالة؛ ليست بالدعوى التي يمكن أن تصمد أمام النقاش. وذلك لأنّ تطبيق الشريعة، وتطبيق الأحكام الولائية يحتاج كلٌ منهما إلى تشخيص الواقع، وتمييز الوقائع، وبناء الاستراتيجيات، وتحديد السياسات، وصياغة إطار منظومي شامل  لعملية التطبيق  تلك؛ وهو ما يحتاج إلى علوم إنسانية العدالة، وتحديداً العدالة الوحيانية.

أما على مستوى أهم النتائج التي يمكن الخلوص إليها، فنشير إلى ما يلي:

  1. مطلوبية أن يُعمل على مشروع نقدي شامل للعدالة غير الوحيانية، وفلسفتها، ونظرياتها، ومبانيها الفكرية، ومجمل تجلياتها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها، والتي اصبحت نتائجها ماثلة في مجمل المجتمعات التي ترزج تحت أزماتها وآثارها السلبية.
  2. مطلوبية أن يُعمل على تطوير المناهج ذات الصلة في إطار العدالة الوحيانية وفلسفتها، حتى تصبح أكثر مواءمة للقيام بذلك الفعل، وأكثر قدرة على تنفيذ مشروعه، وتحمّل أعبائه المعرفية. وذلك لأن المنهج لا  يمكن أن ينفصل عن حقله المعرفي من جهة جدلية العلاقة المعرفية بينهما.

وهذا ما يستدعي العمل على تأصيل تلك المناهج، لتصبح أكثر قدرة على إنتاج تلك العلوم الإنسانية التي ترتكز على العدالة الوحيانية، وتنبع منها، وتقيم وظائفهان وتحقّق أهدافها، وتسمح ببلوغ جميع مقاصدها.

 

                                                                                                                                                      

 

[1]- سورة الحديد، الآية 25.

[2]- الكليني، الكافي، دار الكتب الاسلامية، 1388ه.ش، مج1، ص 95.

[3]- محمد شقير، فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي (ولاية الفقيه أنموذجاً)، دار الهادي، بيروت، 2004م، ط1، صص58-64.

عدد قراءات المقال : 1487

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

703356 زائـــــر منذ 01-02-2015

موقع الشيخ الدكتور محمد شقير