التأويل الماركسي للوباء(كوفيد19) وتوظيفات الأيديولوجيا

التأويل الماركسي للوباء والتّوظيف الأيديولوجي

إنّ ما يحصل اليوم في العالم من أزمات، كشف عنها، وزاد فيها، انتشار الوباء الحالي (Covid-19)، يشير إلى فشل منظومة العولمة الحاليّة، وقيمها الرّأسماليّة المتطرّفة والنّيوليبراليّة، في أن تكون في خدمة الإنسان، وأمنه، ورفاهه... وهو ما أفصحنا عنه في مقالة سابقة - الأخبار، العولمة الرّأسماليّة ومواجهة الوباء: في الدّلالات والبدائل -؛ لكن ذلك لا ينبغي أن يكون سبباً لإنعاش التّوظيف الأيديولوجي، وخصوصاً في الصّراع الفكري الذي كان قائماً بين الماركسيّة والرّأسماليّة، إذ إنّ ما يحصل لا يصحّ اعتباره دليلاً على كونه مدخلاً إلى الاشتراكيّة الماركسيّة.

وهي مقاربة ينبغي الإلفات إليها، لأنه يبدو أن هناك من يعتقد أن فشل تلك الرّأسماليّة، ليس إلّا تعبيراً عن انبعاث مستجد للماركسيّة وقيمها؛ وفي هذا أكثر من ملاحظة:

أوّلاً: هو اعتقاد ينطوي على رؤية ضيّقة للخيارات الفكريّة للتّجربة البشريّة، تحصرها في اثنتين (رأسماليّة، ماركسيّة).

ثانياً: يختزن عقم العقل البشري عن اجتراح خيارات أخرى، قد تكون أكثر إبداعاً، وقدرة على محاكاة مصالح البشريّة، وخير الإنسان.

ثالثاً: يمارس نوعاً من الإسقاط الأيديولوجي على الواقع والتّاريخ؛ إسقاط ثبت فشله في أكثر من موطن واختبار.

بل لا بدّ من القول، إن نجاح نوع من أنواع الاشتراكيّة، في أن يكون أقرب إلى رفاه الإنسان، وأمنه الشّامل؛ ليس دليلاً على كونه مدخلاً إلى الشيوعيّة، أو تعبيراً عن مواءمة ما يحصل للنّظريّة الماركسيّة للتّاريخ وحركته. إذ لا بدّ من التّفريق بين الاشتراكيّة كمدخل إلى الشيوعيّة، وباعتبار كونها مفردة من مفردات النّظريّة الماركسيّة ورؤيتها للتّاريخ، وبين الاشتراكيّة في إطارها الاجتماعي والاقتصادي (الدّيمقراطي) البحت؛ أي فرق بين الاشتراكيّة الماركسيّة، وبين الاشتراكيّة الاجتماعيّة. ونجاح الثّانية كجزء من النّظام الاجتماعي - الاقتصادي لأيّ من الدّول، لا يعني أبداً نجاح الأولى. ومحاولة الخلط بين الأولى والثّانية، لا يعدو أن يكون ممارسة تهدف إلى أكثر من توظيف أيديولوجي، لا يسلم من النّقد.

إنّ التّفريق بين الاشتراكيّة، كمعطى أيديولوجي ماركسي، وبين (الاشتراكيّة) كرؤية اجتماعيّة؛ هو أمر جوهري، حيث إنّ ما يميّز هذه الاشتراكيّة:

أوّلاً، أنّها ليست مرحلة تاريخيّة، كمقدّمة نحو الشيوعيّة.

ثانياً، ليست اشتراكيّة عامّة لجميع القطاعات ذات الصّلة.

ثالثاً، ليست اشتراكيّة نقيّة، بل هي مزيج مع محتوى آخر (قد يكون رأسماليّاً).

رابعاً، أنّها أقرب إلى أن تستند إلى قيم العدالة بمحتواها الأخلاقي، من مضمونها الأيديولوجي.

خامساً، يمكن أن تتواجد لدى أي من المدارس الفكريّة أو الأنظمة أو السياسات، بغضّ النّظر عن التّسميات والخلفيّات، إذ إنّ مضمونها القيمي الأخلاقي يسمح لها أن تكون عابرة لجميع الأطر والحواجز.

ولذلك يمكن للقارىء أن يلاحظ وجود أحزاب اشتراكيّة، لكنّها ليست بالضّرورة ماركسيّة شيوعيّة. كما يمكن ملاحظة سياسات لدى العديد من الدّول والحكومات، يمكن أن توصف - بناءً على تلك المقاربة -  بكونها إشتراكيّة - ولو بمعنى حضور قيم العدالة اجتماعيّاً واقتصاديّاً -، لكنّها ليست على الإطلاق ماركسيّة أو شيوعيّة. بل يمكن القول إنّ هذا المضمون الذي قد يوصف بالاشتراكي - والذي يقارب العدالة بمفهومها الأخلاقي -، ليس حكراً على الاشتراكيّة. وقد كان موجوداً وممارساً - وما زال - بشكل أو آخر لدى العديد من الاتّجاهات والمدارس الفكريّة، أو الأنظمة التي تتبنّى قيماً وسياسات أكثر عدالة اجتماعيّاً واقتصاديّاً.

وعليه، سوف يكون هذا التّمييز أمراً ضروريّاً بين الاشتراكيّة الماركسيّة من جهة، والاشتراكيّة الاجتماعيّة من جهة أخرى، فما هو قائم في العديد من الدّول وأمكن له تحقيق أكثر من إضافة ونجاح رفاهي للإنسان هو تلك الاشتراكيّة الاجتماعيّة - أي العدالة الأخلاقيّة، أو ربّما توصف بالفطريّة -، والتي يمكن أن تتآلف مع أكثر من بعدٍ رأسمالي أو إسلامي في الفكر أو في النّظام القائم في أكثر من دولة. وأمّا تلك الماركسيّة الشيوعيّة، فهي التي لم يتحقّق منها شيء إلى الآن، بل هي قد فشلت، وأثبتت التّجارب التّاريخيّة عجزها عن تقديم إثبات واقعي واحد على صحّتها وإمكانيّتها العمليّة.

ومن هنا نستطيع أن نجد أنّ مجمل تلك الدّول ذات النظام الرأسمالي، قد تبنّت مستوى أو آخر من تلك الاشتراكيّة - بما فيها تلك التي تمادت في خياراتها الرّأسماليّة -، وهي لا تجد تهافتاً بين طبيعة ذلك النّظام، وبين أن يكون لديه سياسات قد توصف بالاشتراكيّة، أو هي في الواقع مستمدّة من قيم العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

بل إنّ بعض الدّول التي تبنّت منذ نشأتها الفكر الماركسي، وسعت إلى تطبيقه في السياسة والاقتصاد والمجتمع؛ لم تجد ما يحول دون اعتمادها خيارات رأسماليّة. والنّموذج الصّيني خير شاهد على ما نقول، حيث اندمجت رأسماليّة الدّولة مع اشتراكيّتها، وهو ما جرى ويجري تحت عنوان تطوير النّموذج، وتكيّفه مع الواقع.

لكن ما كان يجري تسويقه على أنّه إبقاء على الثّوابت الماركسيّة، لم يكن في الواقع إلّا نوعاً من المغادرة لتلك الثّوابت، ولوم في بعضٍ من مفرداتها، وإن عُمل على تظهير تلك المغادرة بطريقة مواربة، حيث قد يكون الحرص على إظهار النّقاء الأيديولوجي أحد أسبابها.

 

 

لكن أدنى مقارنة بين النّموذج السوفياتي والنّموذج الصّيني، يظهر أنّ أحد أسباب فشل النّموذج الأوّل هو الانغلاق الأيديولوجي، الذي كان يؤدّي إلى أكثر من إشكاليّة في النّظر إلى الواقع، وفي محاولة إنتاجه؛ بخلاف النّموذج الثّاني، الذي أفضى تجاوز بعضٍ من ثوابته الأيديولوجيّة إلى توفير أكثر من قدرة على التّكيّف، والتّطوير في أكثر من مجال.

لعلّ ميزة النّموذج الصّيني - في نسخته الثّانية - هو أنّه نموذج يحوي قليلاً من الأيديولوجيا، لصالح مساحة أكبر من الانفتاح الاقتصادي، والتّفاعل الحضاري في أكثر من ميدان، في مقابل النّموذج السوفياتي، الذي انطوى على غلبة البعد الأيديولوجي على أيّة مرونة، أو قدرة على التّفاعل، والتّكيّف، والتّطوير. وهو ما ساهم في إيصال هذا النّموذج إلى ما وصل إليه، في حين استطاع النّموذج الصّيني أن يتجنّب ذلك المآل، بفعل تلك المقاربة الإصلاحيّة التي حصلت قبل حوالي نصف قرن من الزّمن، والتي شكّلت نوعاً من الانعطافة في مسار هذا النّموذج ومآلاته.

وقد لا يكون من المبالغة القول إنّ مجمل الأحزاب الشيوعيّة في العالم لم يبق لها من الشيوعيّة إلّا الإسم، في حين أنّها نحت إلى أن تكون اشتراكيّة بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي، أي هي أقرب إلى أن تكون اشتراكيّة - بذاك المعنى - من أن تكون شيوعيّة، وإن بقي لديها شيء من رواسب الشيوعيّة في الوعي أو الخطاب أو غيره. وهو ما ينطبق على العديد من الأنظمة التي تقودها أحزاب توصف بكونها شيوعيّة، وهي - كما قلنا - أقرب إلى أن تكون اشتراكيّة من كونها شيوعيّة.

قد ينطوي مجمل ما تقدّم على قضيّة مفادها، أنّه ليس من الصحيح أن يشكّل مجمل ما يحصل من فشل عولمي رأسمالي دافعاً إلى العودة إلى الوراء، عودة مشفوعة بنوع من الحنين الماركسي، وتحديداً في سياق الاعتقاد أنّ فشل الرّأسماليّات المتوحّشة في مواجهة هذا الوباء ينبغي أن يقود إلى محاولة استنباش الماركسيّة من تحت ركام التّاريخ. هذا الأمر ليس صحيحاً بالمعنى المعرفي والمنطقي، ولا ينبغي أن يفضي إلى نفخ الرّوح من جديد في التّصلّب الأيديولوجي الذي ثبت فشله، وأدّى إلى العديد من الكوارث والخيبات في التّجربة الماركسيّة. إنّ العودة إلى تعويم الأيديولوجيا، سوف يؤدّي إلى العثرات والسّقطات نفسها، التي أفضى إليها التّغوّل الأيديولوجي في تجارب تاريخيّة سابقة، ليست ببعيدة، دولاً وأحزاباً وغيرها.

إنّ ما مضى بيانه، قد يشتمل على دعوة إلى الانحياز من الأيديولوجيا إلى مزيد من الواقعيّة، والتّحرّر الفكري، والانفتاح، والقدرة على التّكيف، والتّطوير، وتجاوز الانغلاق، وتفادي التّصلّب، والسّعي إلى إنتاج نموذج (اشتراكي) يرتكز على قيم العدالة الأخلاقيّة، أي الانتقال من الأيديولوجيا وإسقاطاتها وسقطاتها إلى العدالة في قيمها وتجلّياتها، وأن يُعمل على انتاج تلك (الاشتراكيّة الاجتماعيّة) التي تحاكي خصوصيّة المرحلة والمحيط، فليس من الضّروري أن يُمارس تقليدٌ غير واعٍ للاشتراكيّات المختلفة على اختلافها، واختلاف نماذجها، أو فعل إسقاط لتجارب أخرى، تختلف في ظروفها وخصوصيّاتها.

 

إنّ ما ينبغي البوح به، هو مكمن القوّة لدى الأحزاب الشيوعيّة - إسماً، الاشتراكيّة واقعاً - عندما تستند، بشكل عقلاني- أخلاقي، وليس أيديولوجي،  إلى العدالة في مشروعها وأهدافها - بمعزل عن الجدل والنّقاش في تأويلات العدالة وتطبيقاتها -... في حين أنّ مكمن الضّعف لديها عندما تجنح إلى أيديولوجيّتها المستوردة، وتمارس اغترابها الأيديولوجي. وأي حزبٍ من الأحزاب (الشيوعيّة)، يمكن له ببساطة أن يقتفي أثر عثراته الأيديولوجيّة في أيّة مقاربة تاريخيّة، لكن بشروطها، ومنها: زحزحة الثّوابت، ومغادرة التّنميط، وممارسة دور متقدّم من التّحرر الفكري.

إنّه لمن المجدي أن تتمّ مقاربة ما يحصل بشكل أكثر علميّة وواقعيّة، بعيداً عن الحماس الأيديولوجي، حتّى لا يفضي إلى ممارسة نوع من الإسقاط الرؤيوي الماركسي، لأنّ ذلك سوف يؤدّي إلى إنتاج وعي زائف، وإلى الوقوع مجدّداً في الفخّ الأيديولوجي وعثراته، بما في ذلك تعزيز الموقف العدائي من الدّين والتّيّار الدّيني، بمعزل عن أي تفريق بين اتّجاه (أو تيّار) ديني، عقلاني، حداثوي، تحرّري، مقاوم، قيمي (العدالة)، وبين غيره... مع أنّ نظرة خاطفة إلى بعض التّجارب الدّينيّة المعاصرة، تظهر أنّ بعض الأحزاب (المقاومة)، ذات المرجعيّة الدّينيّة، هي أجدى دوراً في مشروع التّحرّر والمقاومة المحلّي (لبنان) والإقليمي، وهي أبلغ أثراً في قيادة مشروع التّحوّل إلى نظام أكثر عدالة، وأشدّ انحيازاً إلى الفقراء والفئات المستضعفة والمظلومة، هذا فضلاً عن أكثر من دور اجتماعي وتنموي وسياسي ذي صلة.

وكذلك الأمر عندما نأتي إلى بعض الدّول الإقليميّة ذات المرجعيّة الدّينيّة (الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران)، فإنّنا نجد أنّ دورها في المشروع التّحرري والمقاوم (للاحتلال الاسرائيلي وغيره) في المنطقة، لا يقارن مع دول عظمى ذات مرجعيّة ماركسيّة، بادت أو ما زالت قائمة، فهي - أي الجمهوريّة الإسلاميّة - لم تبادر لتكون من أوّل المعترفين بالكيان الاسرائيلي، أو من الذين لديهم علاقات ديبلوماسيّة كاملة معه، كما هو الحال مع تلك الدّول.

ومن هنا، وفي مقام النّقد الهادف إلى توظيف مجمل الطّاقات في الاتّجاه الساعي إلى تحقيق قيم العدالة الأخلاقيّة محليّاً وإنسانيّاً، وتجنّب أي إنعاش أيديولوجي ومضاعفاته، قد يكون جديراً الإلفات إلى ما يلي:

  1. أهميّة البعد عن التّصلّب والتّنميط الأيديولوجي، والقدرة على وعي تجارب التّاريخ وخلاصاتها.
  2. تجنّب إسقاطات الأيديولوجيا وسقطاتها، والتي قد تفضي إلى رؤية مغايرة للواقع، أقلّ واقعيّة، وأوغل في الاغتراب الأيديولوجي.
  3. الانحياز إلى العدالة (الأخلاقيّة أو الفطريّة)، والسّعي إلى إنتاج وعي عدالة، بعيداً عن أيّة مؤثّرات أيديولوجيّة، حتّى لا تكون الانعطافة إلى العدالة مجرّد انعطافة لفظيّة، تتستّر على المضمون الأيديولوجي الكامن خلفها.

عدد قراءات المقال : 1176

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

703615 زائـــــر منذ 01-02-2015

موقع الشيخ الدكتور محمد شقير