في الحياد والمقاومة

في الحياد والمقاومة

ليس مفهوم الحياد أوّل قضيّة تطرح في سياق نقاش دور المقاومة وفعلها. وسوف يكون من الصحة بمكان أن يُعمد إلى مقاربة هذا المفهوم بشكل علمي، بعيداً عن أيّة سلبيّة، حتّى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود لديه.

مفهوم الحياد - كغيره من المفاهيم ذات الصّلة - يتّسم بمستوى من الضّبابيّة، التي تحتاج إلى بيان العديد من المشخصات، التي تجعل منه أكثر تحديداً ووضوحاً. من ضمن تلك المشخصات: أوّلاً، تحديد مجال الحياد (اقتصادي، سياسي، عسكري...). ثانياً، متعلّق الحياد (أي الجهة التي يتعلّق بها الحياد، هذه الدّولة أو تلك). ثالثاً، شروط الحياد ومقوّماته، باعتبار أن الحياد يحتاج إلى جملة شروط ومقوّمات، حتّى يصبح ذا قيمة عمليّة. وإلّا فإنّه إذا افتقد إلى شروطه ومقوّماته، يضحى أقرب إلى الترف الفكري والسياسي الذي لا قيمة واقعيّة له.

من شروط الحياد، أن تحترم مجمل تلك الجهات والدّول المؤثرة في المجال الإقليمي والدّولي ذي الصّلة حياد تلك الدّولة وترتضي به، وإلّا يصبح من دون معنى. لأنّه لا حياد مع وجود أي نوع من أنواع العدوان على الدّولة ومصالحها.

ومن مقوّمات الحياد أن تكون لدى تلك الدّولة قوّة ذاتيّة مناسبة وكافية، تعطي قيمة لخيار الحياد في ساحة الصراعات الدّوليّة وغيرها. وإلّا فإن افتقاد الدّولة لعناصر القوّة لديها، قد يغري أكثر من جهة بالعدوان الجغرافي أو الاقتصادي أو السيادي أو الأمني... وهو ما كان يحصل طيلة عقود من الزّمن مع لبنان من قبل الكيان الإسرائيلي وداعميه، وما زال قائماً إلى حينه.

وعليه، لن يكون هناك من حياد مع أيّ ضعفٍ سيادي أو سياسي أو داخلي، أو في أيّ من عناصر القوّة التي تحرّر الأرض، وتحمي الإنسان، وتردع أيّ عدوان محتمل، أو تجاوز على الحقوق الاقتصاديّة للدّولة في البرّ أو البحر... لأنّ الدّخول في مواجهة العدوان، ومن يعين عليه؛ يعني اللّاحياد.

الحياد بهذا المعنى يصبح خياراً اسراتيجيّاً - وليس مجرّد موقف أو سياسة - له أبعاده المختلفة سياسيّاً واقتصاديّاً... يبدأ من الداخل وبُناه الشاملة، ويتمظهر في السياسة الخارجية، ويتطلّب من الدّولة أن تبني منظومة قوّة متنوّعة، قادرة على حماية هذا الحياد وتسييله.

وهو يتطلّب - قبل ذلك - من جميع مكوّنات هذا الوطن وعائلاته الرّوحيّة، أن تتوافق على بناء الدّولة القويّة والعادلة، لا أن تبقى مجرّد طوائف في نظام طائفي، عاجز بنيوياً عن بناء عناصر قوته، وحماية سيادته وأرضه وشعبه، وجميع حقوقه ومصالحه.

بهذا المعنى، تنساب إلى البحث جملة من الأسئلة، منها: هل من توافق على بناء تلك الدّولة القادرة على حماية حقوقها وحدودها وسيادتها وحيادها المرتقب؟ وهل من استعداد لتجاوز النّظام الطّائفي إلى اللّاطائفيّة في بنية النّظام اللّبناني، بما ينقل لبنان من هويته الطائفية العاجزة، إلى هويته الوطنية الجامعة؟ وهل من حرص لدى مجمل الفئات على عدم التّفريط بما يمتلكه لبنان من مقوّمات للحياد في قوّة الرّدع لديه المتمثّلة في المقاومة - فضلاً عن الجيش وقواه العسكريّة المختلفة -، إذ إنّ التّجربة الماثلة للعيان قد أثبتت، من دون شكّ، أنّ المقاومة هي التي حقّقت نوعاً من توازن الرّدع مع العدوّ الإسرائيلي، هذا الرّدع الذي يحيل الحياد إلى قيمة واقعيّة وعمليّة؟

إنّ البحث في مقوّمات الحياد وشروطه، يستلزم الحفاظ على قوّة المقاومة والبناء عليها. في حين إنّ العمل على إضعاف المقاومة يفضي حكماً إلى انتهاج اللّاحياد. بل لا يريد الحياد من يعمل على الإضرار بالمقاومة، والإساءة إليها، وإعانة الخارج عليها، والتعاون مع محاور خارجية لا هدف لها إلاّ إضعاف المقاومة ودورها، لأنّه بهذا الفعل يجعل من لبنان وثرواته مطمعاً للعدوان، أو يغريه بذلك. وهو ما يؤدّي حتماً إلى اللّاحياد في أكثر من ميدان.

إن الفكرة الأساس هي أن الحياد يحتاج إلى رصيد من القوة البنيويّة والشاملة على مستوى الدّولة والشعب، تلك التي تحيل الحياد إلى قيمة عمليّة. أي إنّه قبل النّقاش في ممارسة الحياد، علينا  أن نبحث – وعلى أساس من المصلحة اللّبنانيّة –في بناء جميع عناصر القوّة الذاتيّة في لبنان، والتي تسمح لنا أن نفرض حيادنا، ونحميه بقوانا الذّاتيّة. أمّا توسل الحياد من موقع الضّعف، فهو بمثابة إعارة تُستردّ عند صياح الديك، عندما تجنح الدّول إلى انتهاك سيادتنا، وإهانة حيادنا، وهتك كرامتنا، والإضرار بنا. وشاهد التّاريخ ليس بقليل.

وفي هذا الإطار قد تنبري بعض الجهات إلى توظيف مقولة الحياد للإضرار بالمقاومة،  وهو ما يعني أنّها لا تريد الحياد، وإنّما تريد مجرّد توظيفه خدمة لأهداف خارجيّة، تعمل على سلب لبنان عناصر قوّته –بما فيها العسكرية وقيمتها الردعية-، وهو ما يصبّ في مصلحة الكيان الاسرائيلي، ومصالح خارجية أخرى، سواءٌ في قضيّة التّوطين، أم النّازحين، أم الحقوق الاقتصاديّة للبنان.

وهنا، فيما يرتبط بدور المقاومة في الدّاخل اللّبناني على المستوى الاقتصادي، يجب القول إنّ المقاومة عندما تعمل على توفير عناصر القوّة الاقتصاديّة للبنان، سواءٌ في تغيير النّموذج الاقتصادي إلى الاقتصاد المنتج، أو في تنويع خيارات التّعاون الاقتصادي القائم على المصلحة اللّبنانية، من دون تدخّل من أيّة جهة خارجيّة، أو في العمل على مواجهة الفساد وتحقيق الإصلاح..؛ إنّما تحقّق واحداً من مقوّمات هذا الحياد وشروطه. في حين أن الحؤول دون ممارسة الإصلاح أو التّطوير في النّظام الاقتصادي اللّبناني (أو المالي) لاعتبارات وحسابات طائفية وغيرها، لا يخدم مقولة الحياد وشروطه.

أمّا الوصل ما بين دور المقاومة ومقولة الحياد من جهة، وما بين مآلات الوضع الاقتصادي في لبنان من جهة أخرى، فهو وصلٌ لا يحمل مضموناً علميّاً، ولا يتّسم بالموضوعيّة، بل قد يُستغل من قبل بعض الجهات الرّامية إلى تشويه المقاومة من خلال العنوان الاقتصادي، ومحاولات توظيفه للإساءة إليها وإضعافها. وهو نقيض الحياد في مصلحته اللبنانية.

بل قد يقال إنّ طرح الحياد بهذه الكيفية ليس حيادياً في نفسه، لأنه عندما يُطرح في سياق تحميل طرفٍ لبناني مسؤولية الأزمة الاقتصادية في لبنان، من ضمن حملةٍ شاملة عليه، سعياً إلى هدفٍ وآخر؛ فهذا يعني أن طرح الحياد في الداخل اللبناني ليس حيادياً. وعليه، كيف لطرحٍ يفتقر إلى الحيادية داخلياً، أن يدعو إلى الحيادية خارجياً؟ فالحياد يجب أن يتضمّن نفسه في السياق والشكل والغايات، وإلاّ كان فاقداً لنفسه. وسوف يؤول إلى دعوةٍ تخلو من أساسها. ولن تفضي تالياً إلاّ إلى إضافة عنوان سجالي في فضاء التجاذب السياسي والإعلامي.  

بل إن قلنا إنّ ردع العدوان وتعزيز السيادة في لبنان من أهم مقوّمات الحياد، هنا يصبح للمقاومة النّصيب الأوفر في تحقيق شروط الحياد ومقوّماته، بما في ذلك السيادة في الإطار السياسي أو الاقتصادي أو الدّاخلي... أمام محاولات العديد من الجهات انتقاص هذه السيادة والتّعدّي عليها. في حين أنّ من يقعد عن تعزيز هذه السيادة وحمايتها، سواءٌ في مقابل العدو الاسرائيلي، أو التّدخّلات الخارجية؛ إنّما ينسف مقولة الحياد، من خلال الإضرار بشرطها السيادي، أو التّنازل عنه، والتهاون في حمايته.

كما إنّ من مقوّمات الحياد توفير حدّ أدنى من التّوافق والتّضامن الدّاخليّين، والذي يقطع الطّريق على المحاولات الرّامية إلى استغلال أيّ انقسام أو اختلاف داخلي لتجاوز السيادة وإضعافها، بما يؤدّي إلى إفقاد الحياد بعضاً من شروطه ومقوّماته.

إذا أخذنا مجمل ما ذكرنا وغيره بعين الاعتبار، تصبح المقاومة الطّرف الأوّل، الذي عمل بقوّة على توفير مقوّمات ذلك الحياد القائم على المصلحة اللّبنانيّة، وسيادة لبنان، وقوّته، وحمايته من العدوان الإسرائيلي أو التّكفيري، بل من تلك الجهات التي تسعى إلى توظيف جميع العناوين من اقتصاديّة وغيرها لإفقاده عناصر قوّته. وهي لن توفّر مقولة في سبيل ذلك، بما فيها مقولة الحياد.

إنّ الحياد الذي ينبغي النّقاش فيه هو الحياد الذي ينبع من مصلحة لبنان، وليس ذلك الحياد الذي تريده جهات خارجيّة ودوليّة، والتي سعت إلى سيطرة القوى التّكفيريّة والإجراميّة على العراق وسوريا، والتي ساءها تدخّل المقاومة لإفشال أهدافها في كلّ من الدّولتين. فهنا، هل كان أمراً حياديّاً أن تُترك جماعات التّكفير تلك تسيطر على كلّ من البلدين، ثمّ ليشتدّ عودُها، وتصبح لديها قدراتها التي تفوق قدرات لبنان واللبنانيين، وليصل عديدها إلى مئات الآلاف، بل أكثر، فتطرق أبوابنا، وتقاتلنا في ديارنا ومدننا، وتفعل بنا ما فعلته في دول أخرى؟ إن كان هذا هو الحياد المرتقب، فهو ليس الحياد الذي ينسجم مع قوّة لبنان، وسيادته، ومصالحه القوميّة، بل مع شروط وجوده واستمراره.

عدد قراءات المقال : 812

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

704132 زائـــــر منذ 01-02-2015

موقع الشيخ الدكتور محمد شقير