شهادة قادة المقاومة في منطق الصراع
ليست هي المرة الأولى التي يسقط فيها من قادة المقاومة شهداء في ميدان المواجهة مع إسرائيل. وبغض النظر عن قائمة الأهداف التفصيلية التي أرادتها إسرائيل من وراء هذه العملية، فمن الواضح أن لها علاقة مباشرة بعدوان تموز على مستوى سعي إسرائيل إلى ترميم هيبة الردع التي تصدعت بعد الحرب على لبنان، وإلى الانتقام لهزيمتها، ومحاولة الإضرار بالقدرات العسكرية والأمنية للمقاومة في لبنان.
أما فيما يرتبط بترميم هيبة الردع لديها، فيمكن القول إن سعي إسرائيل إلى تسجيل انتصار أمني، قد يعود عليها بتلك النتيجة التي تريد، شرط أن يؤدي ذلك إلى شل قدرة المقاومة، ومنعها من الرد بنفس القوة أو أكثر.
أما إذا استطاعت المقاومة أن تستوعب الضربة، وأن تبادر إلى الرد عليها بنفس المعادلة التي اختارتها إسرائيل، فسوف يؤدي ذلك إلى الإضرار أكثر بقدرة الردع الإسرائيلي.
لقد أرادت إسرائيل من عدوان تموز القضاء على المقاومة، واستعادة هيبة الردع التي خسرتها في هزيمتها العام ألفين، لكن كانت النتيجة أن إسرائيل ليس أنها لم تستطع ترميم ما تهشم من هيبة الردع لديها في العام ألفين، فقط، بل أدى عدوان تموز وما أعقبه من هزيمة إسرائيلية، إلى تحطيم هيبة الردع أكثر لديها.
والآن لقد بدأت إسرائيل بحرب من نوع آخر على المقاومة، وإذا كانت الأمور بخواتيمها فهذه هي بداية الحرب، وتعلم إسرائيل أن طبيعة المقاومة بشكلها المتخفي أقدر على خوض هذه الحرب من كيان ظاهر بمؤسساته وأشخاصه، وغير قادر كثيراً على ممارسة الخفاء في تحركاته.
قد ترى إسرائيل أنها استطاعت أن تحقق إنجازاً يعيد شيئاً من هيبة الردع لديها، لكن نظرة هادئة قد تبدد ما قد يتوهمه هؤلاء:
أولاً: إن ما حصل سيجعل المقاومة تستشعر مستوى أكبر من الخطر، وهو ما سوف يدفعها إلى تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية أكثر، وبالتالي فإن شهادة القائد العسكري للمقاومة في لبنان، سوف تدفع بتلك المقاومة إلى العمل بجهد مضاعف، للاستعداد أكثر فأكثر لأي عدوان محتمل على لبنان، قد تكون تلك العملية نوعاً من التمهيد له.
ثانياً: سوف يدفع المقاومة إلى التشدد أكثر في مواجهة إسرائيل على الحدود الجنوبية للبنان، ولن يستطيع أي منطق أن يواجه منطق المقاومة في ضرورة تحرير ما تبقى من أرض محتلة، بل قد تعمد المقاومة إلى الرد على أي اختراق للسيادة اللبنانية، وإلى تصعيد قدرات الردع لديها للقيام بتلك المهمّة.
ثالثاً: إن تاريخ الصراع بين المقاومة الإسلامية وإسرائيل يدل على أن أي اعتداء تقوم به إسرائيل لن يبقى دون عقاب، سوى أنه بعد عملية الاغتيال تلك، سوف يكون أمام المقاومة هامش واسع من الخيارات على مستوى المكان والزمان والأهداف، وهذا الوضع سوف تكون كلفته النفسية والأمنية كبيرة جداً على إسرائيل، بل يمكن القول إن إسرائيل قد فتحت على نفسها باباً ليست هي من يحدد إغلاقه، أو الثمن الذي يجب دفعه لقاء فتحها له.
أما فيما يرتبط بالضرر الذي يمكن أن تلحقه تلك العملية ببنية المقاومة، فهنا يجب أن نلحظ النقاط التالية:
- ثقافة المقاومة: وهي ثقافة تقوم على فلسفة الجهاد، بمعنى الإعداد والاستعداد بكل الوسائل ومضاعفة الجهود وعدم التراخي في ميدان الصراع، وهي ثقافة تقوم على عدم الوهن، بمعنى امتلاك جميع عناصر القوة وعدم التراجع عند أي اختبار أو تحدٍ؛ وهي ثقافة تمتلك الاعتزاز بهويتها، وبقوة هذه الهوية وقدرتها في منطق الصراع.
وبالتالي فإن ما حصل سوف يستفز في هذه المقاومة إرادة التحدي، وسوف يجعل إيمانها بقضيتها أقوى، وسوف يدفعها إلى نوع من الرد المنهجي، أي الرد بقوة، ولكن أيضاً بشكل مستديم وبعقلانية تجعلانه أشد إيلاماً وأكثر كلفة.
إن أية ضربة تكون ناجحة، إذا ما استطاعت بالدرجة الأولى أن تضعف إرادة الخصم قبل إمكانياته، أما إذا كانت تثير في الخصم إرادة التحدي والقتال أكثر، فلا يمكن القول بنجاحها، بل سوف يحكم عليها بالفشل، خصوصاً إذا ضممنا إليها الإمكانيات التي تمتلكها المقاومة من أجل ممارسة ردها المنهجي.
إن ثقافة المقاومة هي ثقافة ترنو إلى صناعة النصر، وترى في عطاء الشهادة دافعاً للاستمرار والالتزام وللتصلب أكثر في ميدان المواجهة، لأن فهمها لفلسفة النصر وأسبابه لا يقبل منها أي ضعف أو تراجع أو وهن.
- البعد المؤسساتي: إن فعل المقاومة لا يقوم على فرد من الناس، بل هو يمتاز بطابعه المؤسساتي، حيث توجد مؤسسات تحمل قضية ما، وإيماناً ما، وثقافة ما، وتمتلك إدارتها وتنظيمها؛ وعليه فإن شهادة أي قائد من قادة المقاومة، مهما كانت مؤلمة، لكن طبيعة هذه المؤسسة وقضيتها، تفرض عليها الاستعداد لكل الاحتمالات، واعتماد كل البدائل، واجتراح كل الحلول، عندما تواجه أي معضلة أو اختبار في صراعها مع إسرائيل.
- كما توجد قضية ومقاومة، هناك أيضاً شعب يقف مع هذه المقاومة، ويؤمن بها وبقضيتها، وهذا الشعب أعطى هذه المقاومة من صبره وماله وإنسانه، وأثبت في أشد الظروف إيمانه العميق بهذه المقاومة، واستعداده للدفاع عنها كما تدافع عنه، ولذلك ما يحصل عندما تتعرض المقاومة لأي حدث، هو مزيد من التعاطف مع المقاومة، ومزيد من الدعم لها، ومزيد من الانخراط في صفوفها، والإيمان بها، وبعدالة قضيتها التي تقاتل من أجلها.
إن تاريخ الصراع بين المقاومة وإسرائيل يدل بوضوح أن المقاومة كانت تزداد قوة وصلابة، عندما يتعرض أحد قادتها للاغتيال من قبل إسرائيل، وهذا ما حصل مع الشيخ راغب حرب، حيث أدى استشهاده إلى تعاطف وطني وشعبي كبير مع المقاومة، والسيد عباس الموسوي، حيث كانت شهادته حافزاً لانتقال المقاومة إلى مرحلة أكثر قوة. بل إن أي احتلال أو عدوان قامت به إسرائيل كان يزيد المقاومة عزيمة ومنعة وقوة، لأنه كان يستثير فيها وفي شعبها إرادة التحدي والمواجهة.
وبالتالي فإن ما حصل أخيراً من اغتيال للقائد العسكري للمقاومة، لن يخرج عن منطق الصراع هذا، لأن إسرائيل تواجه شعباً يملك الثقة بالله، والإيمان بقضيته، وثقافة قادرة على اجتراح النصر، ومواجهة التحديات، وتحويل الألم إلى حافز لصناعة القوة، وممارسة الرد بطريقة تردع إسرائيل عن التفكير مجدداً بمعاودة ارتكاب هكذا جريمة.