عاشوراء وبناء العقل العاشورائي
المراد من هذا العنوان هو: كيف نستخلص من الظّاهرة العاشورائيّة، ومنطلقاتها، وأهدافها مدى حاجتنا إلى الجامعة العاشورائيّة (بمفهومها الأكاديمي)، وضرورة العمل على بناء تلك الجامعة، من أجل أن تكون الأداة الأفضل لتطوير تلك الظّاهرة، وترشيدها، وإصلاحها - فيما يجب إصلاحه -، وقيادتها إلى أهدافها الحقّة، ومقاصدها الصّحيحة، أي لتكون تلك الجامعة بمثابة العقل العاشورائي الفاعل في تلك الظاهرة.
ونودّ الإلفات بداية إلى أنّ المراد فيما نقترحه من جامعة في هذا البحث هو تلك الجامعة العلميّة (أكاديميّة)، والتي تحتوي على تلك الإمكانيّات، والخبرات، والتّخصّصات، والمراكز، والتي تقوم بجملة الوظائف التي تستجيب لجميع ما يحتاجه النّموذج العاشورائي وأهدافه، وما ينبغي أن يُعمل عليه لتطويره وترشيده وإصلاحه -إن اقتضى الأمر- وتوجيهه، إلى حيث يضحى أكثر قدرة على القيام بتلك الوظائف.
هنا يمكن أن نشير إلى أمرين اثنين بشكل أساس يشكّلان التّبرير المجمل لهذا المقترح، القاضي بضرورة بناء الجامعة العاشورائيّة:
الأوّل: إنّ لعاشوراء أهدافاً أبعد، ومقاصد سامية تتّصل بمشروع الأنبياء والرّسل، ومشروع الإمامة في بناء الإنسان والمجتمع الصّالح، وبيان المفاهيم والمضامين الصّحيحة للدّين، والهداية إلى اللّه تعالى، وإقامة القسط، وتحقيق الإصلاح في جميع الميادين، ومواجهة الظّلم والفساد في شتّى الحقول والمجالات...
إذن يمكن القول إنّه يمكن - بل يجب - الاستناد إلى عاشوراء لتقديم النّموذج الحضاري الإسلامي والإنساني، وأنّ عاشوراء كديناميّة، ومدى، وهدف، ومقصد... إنّما كانت من أجل صناعة النّموذج الحضاري الذي ينتمي إلى القيم الدّينيّة والإلهيّة الصّحيحة والأصيلة البعيدة عن التّشويه والتّحريف.
الثّاني: إنّ النّموذج (الظّاهرة) العاشورائي الذي قُدّم في مجمل مراحل التّاريخ، وإن انطلق من نصوص دينيّة، وكان مرعياً من قبل الجهات العلميّة والعلمائيّة ذات الصّلة، وكان نموذجاً مشرقاً وهادفاً في مجمل جوانبه؛ لكن من الواضح أنّه تأثّر بعاملين: الأوّل، الطّبيعة المجتمعيّة للمجتمعات التي نما فيها ذلك النّموذج (عادات، تقاليد، لغة، أعراف...)، وهو أمر طبيعي إلى حدٍّ ما، والثّاني، نوع من الشّعبويّة التي دخلت في ذلك النّموذج بعيداً عن البعد العلمي والتّوجيه العلمائي. ولعلّ هذا الأمر الثّاني قد حصل في أحيانٍ عديدة نتيجة الإفتقاد إلى العلماء الذين يتسنّى لهم القيام بدورهم الهادف في هذا السّياق، أو لأسباب مختلفة لسنا في وارد تعدادها. لكن في الإجمال يمكن القول إنّ هذا النّموذج لم يلق العناية الكافية التي يستحقّها، ولا ذاك الإهتمام الذي يرقى إلى أهميّته، وإلى حجم التّوقّعات التّي ترتجى منه، والمهام التي ألقيت على عاتقه.
مع أنّه ينضوي في تلك الظّاهرة العاشورائيّة (المجالس وغيرها) في كلّ عام، وفي مجمل بلدان العالم مئات الملايين من النّاس في أيّام عاشوراء، بل على مدار العام، ليتعلّموا في مجالس الحسين(ع)، وللتّربية على قيمه، وليستمدّوا تلك الثّقافة التّي تنتمي إلى هذه القيم، وتنبع منها.
أمّا فيما يرتبط بالسّؤال الثّاني حول وظائف تلك الجامعة، فلا بدّ من القول بداية إنّ جملة من الأهداف العامّة، التي ينبغي أن تعمل عليها هذه الجامعة العاشورائيّة، وهي:
أوّلاً: أنسنة عاشوراء، بمعنى تعزيز البعد القيمي والإنساني فيها وفي جميع مظاهرها، والتّأكيد الفعّال على تلك القيم التي انطلقت منها عاشوراء، وتسعى إلى الحكاية عنها، وتهدف إلى إفشائها، ونشرها بين النّاس.
وهذا يتطلّب الوصل الدّائم ما بين جميع تلك المفردات والمظاهر العاشورائيّة وما بين تلك القيم، لتستحيل هذه القيم إلى ميزان فيما يرتبط بجميع تلك المفردات والمظاهر، والتي يجب أن تحتوي على مستوى عالٍ من ذاك الإشباع القيمي والتّعبير الهادف عنه.
ثانياً: عولمة عاشوراء، بمعنى أنّ تلك القيم التي تستند إليها عاشوراء هي قيم تتجاوز جميع الحدود والحواجز من مذهبيّة وطائفيّة وغيرها.
ومن هنا ينبغي أن يُعمل على بناء النّموذج العاشورائي، أو إعادة بنائه بطريقة يصل صوته وصداه إلى جميع المجتمعات على اختلافها، ويبلغ مداه جميع الأمم، وتحاكي تعابيره جميع الثّقافات.
ثالثاً: حضاريّة الفهم والفعل؛ بمعنى أن يُعمل على فهم عاشوراء فهماً من وحي المشروع الحضاري لنهج الأنبياء والرّسل، بما في ذلك المشروع الحضاري الإسلامي، وأن يُنظر إلى النّموذج العاشورائي المراد بناؤه كرافعة لاعتماد ذلك المشروع، وكأدة لممارسة تلك الصّناعة الحضاريّة في مختلف مجالاتها...
أمّا في جملة الوظائف التي ينبغي أن تعمل عليها تلك الجامعة، فيمكن أن نشير إلى بعضٍ منها على سبيل المثال، وهي:
- تطوير الخطاب العاشورائي.
- تشريح ذلك الخطاب، والعمل على تنقيته من أيّة شوائب لا تتّسق مع قيمه وأهدافه.
- ترشيد الشّعائر الحسينيّة وتوجيهها، بما ينسجم مع تلك القيم العاشورائيّة.
- دراسة الآثار الاجتماعيّة والتّربويّة وغيرها للشّعائر الحسينيّة من خلال إجراء الدّراسات الميدانيّة، وكذلك الأمر فيما يتّصل بالخطاب العاشورائي وجميع النّشاطات والأعمال العاشورائيّة الأخرى.
- إعداد وتأهيل الخطباء الحسينيّين والعمل على رفد النّوادي والمجالس العاشورائيّة، بما تحتاجه من كفاءات قادرة على القيام بوظيفتها تلك.
- تنمية الفكر الحسيني، والعمل على وصل جميع المفردات العاشورائيّة بالمنظومة العاشورائيّة وقيمها.
- تطوير الأدب الحسيني في مختلف مجالاته.
- إتاحة المجال لجميع الدّارسين والباحثين للتّعرّف على فكر عاشوراء وفلسفتها، وآدابها، وتاريخها، وقيمها، وأخلاقها، وأهدفها، وخطابها، وفنونها... بشكل علمي وأكاديمي ممنهج وبمختاف اللّغات الممكنة.
- تنمية الفنّ العاشورائي وإيجاد جميع السّبل التي تكفل هذا الجانب.
- إعداد وتنمية المناهج الأكاديميّة لجميع المجالات العلميّة والمعرفيّة التي ترتبط بعاشوراء وفكرها.
إلى غير ذلك من الوظائف التي يمكن أن تقوم بها تلك الجامعة، وقد اقتصرنا هنا على النّقاط السّالفة، ولم نرد أن نستقصي جميع ما يمكن أن يدرج في هذا المجال، لأن كلّ ما أردنا قوله هو إنّ مبرّراتاً وأسباباً عديدة فكريّة وعلميّة وتربويّة واجتماعيّة ودينيّة وإصلاحيّة وأخلاقيّة... تقود كلّها إلى ضرورة العمل على بناء تلك الجامعة العاشورائيّة من رحم تلك الظّاهرة العاشورائيّة ومن أجل خدمتها في الآن نفسه.