في نقد التراث الديني: من التراث الى الحاضر

في نقد التراث الدّيني:  من التّاريخ إلى الحاضر

 

القراءات النّقديّة والتّحليليّة للدّين والتّراث والتّاريخ أمر قائم، وهي تدلّ على واقع حيويّ وصحّي بالمعنى المعرفي للكلمة، هذا فضلاً عن النّصح بالإطلاع على تلك القراءات والاستفادة منها. لكن لا بدّ من ذكر جملة من الملاحظات في هذا السياق:

  1. لا ينبغي لأيّة جماعة دينيّة، أو غير دينيّة، أن تخشى من أيّة قراءة نقديّة أو تحليليّة لمعتقدها وفكرها، طالما بقيت تلك القراءة في سياقها العلمي. وإنّ أيّة جماعة تخشى من القراءات المغايرة، فإنّها بذلك تبعث رسالة خاطئة، مفادها أنّها لا تملك قوّة المنطق والحجّة، أو أنّها لا تعطي ذلك الهامش من النّقاش العلمي وحريّته اللّازمة لممارسة النّقد والتّحليل والتّصويب.

 وإنّ أيّ فكر لا يملك القدرة على التفاعل العلمي، والاستدلال العقلاني، لن يستطيع أن يثبت قدرته على الاستمرار، أو يحرز مكانته المعرفيّة، حتّى لو كان هذا الفكر فكراً دينيّاً.

  1. إنّ توظيف المناهج الحديثة في قراءة التّراث الدّيني أمر في غاية الأهميّة، لأنّه يمكن أن يفتح على أكثر من حفر أو اكتشافات معرفي في ذاك التّراث، قد لا يكون متاحاً لغيرها من المناهج؟

لكن علينا أن نلتفت إلى أنّ ذلك التّوظيف عادةً ما يقع في الإسقاط المنهجي والمعرفي، بل أيضاً الأيديولوجي في أكثر من مورد. وعادة ما تعوز من يمارس ذلك التوظيف الخبرة المطلوبة في التّعامل مع مواد ذلك التّراث، ونصوصه، ومصادره، ممّا يؤدّي غالباً إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء المنهجيّة والعلميّة.

  1. من الأهميّة بمكان أن يتمّ الإطّلاع أيضاً على الرّدود التي تكتب على تلك القراءات النّقديّة، أي الاطّلاع على نقد النّقد، حتّى تحصل الإحاطة الكاملة بالموضوع ومسائله، وتتوفّر للقارئ القدرة على تمييز الآراء والأفكار. أما الاقتصار على قراءة رأي ما، دون الاطّلاع على الرأي الآخر، فهو لن يفضي إلى تصوّر متكامل، ولن يعطي القدرة على القيام بمقارنات علميّة وموضوعيّة في الموضوع محلّ النّقد.
  2. لم توفّر القراءات النّقديّة أي معتقد ديني لأيّ من الأديان ومذاهبها. وسوف يكون مجدياً الإطّلاع على مجمل تلك القراءات النّقديّة، على أن يتمّ ذلك في إطار روحيّة البحث العلمي، وتعزيز الجهد النّقدي، وإعطاء مساحة وافية لحريّة الفكر والتّعبير والبحث عن الحقيقة، والتي ينبغي أن تشمل أي معطى فكري أو ديني لأي من الأديان وغيرها.

وهو ما يتطلّب كبح العصبيّات على أنواعها، وامتلاك أخلاقيّات البحث العلمي وقيمه، وتعزيز العقلانيّة، لأن كل ذلك من أهم الشروط المطلوب توفّرها لتحقيق أيّة تنمية، أو تقدّم، في أي مجتمع أو بلد.

  1. بمقدار ما سوف يكون مهمّاً أن نمارس النّقد للتّاريخ، سوف يكون أكثر أهميّة وجدوائيّة أن نمارس النّقد لحاضرنا، وفكرنا، وسياساتنا، وخصوصاً تلك البعيدة عن أيّة عقلانيّة أو علميّة، إذ أنّنا نملك من مواطن النّقد في راهننا ما يشغلنا عن العودة إلى التّاريخ، وخصوصاً في قضايا الفساد، والمحاصصة، والطّائفيّة - التي تنافي في جوهرها العقلانيّة والعلميّة - والتي أوصلت وطننا إلى ما نحن عليه اليوم.

نعم نحتاج إلى كثير من الجرأة، والتّجرّد، والحرية، والعقلانيّة لممارسة النّقد والتّحليل... لكن أن نوجّه هذا الجهد النقدي لواقعنا، وما نحن عليه؛ أولى بكثير، لأن ما فعله الآخرون لا سلطة لنا على تغييره، في حين نمتلك الإرادة لتغيير حاضرنا. ونقد الآخرين قد لا يكون مجدياً في أكثر من مورد، في حين  تكمن كلّ الجدوى في نقدنا لأنفسنا، وهي أحوج بالنّقد من غيرنا. ولأنّ التّاريخ قد صنعه غيرنا، ولا قدرة لنا على تبديله، في حين أنّنا نحن الذين نصنع تاريخنا، ولنا كلّ الإرادة في اختيار حاضرنا، ومستقبلنا. ولأنّ القداسة التي استخدمت لتعطيل العقل والنّقد في أكثر من مكان وتاريخ، قد نكون نحن من عمل على استجرارها، وإلباسها لطائفيّتنا، وممارساتها، التي هي أولى بالنّقد والنّفي من أي شيء آخر.

يكفينا أن نخرج من طائفيّتنا، وأن نخرجها من أنفسنا، وثقافتنا، ووعينا، وسياساتنا الحزبيّة، عندها يمكن القول إنّ النّقد قد آتى أكله، وبلغ السعي مقصده، وأخذنا العبرة من أكثر من تاريخ.

 

عدد قراءات المقال : 1241

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

703789 زائـــــر منذ 01-02-2015

موقع الشيخ الدكتور محمد شقير