الدين ودوره في الأمن الصّحي
الدين حقيقة اجتماعيّة قائمة، وتتشابك مواقفه مع العديد من المسائل المطروحة في أكثر من مجال. وعندما نكون أمام قضيّة تمثّل تحدّياً لسلامة المواطنين والأمن الصحي، نجد من المجدي أن يُعنى بتحديد موقف الدّين من تلك القضيّة للاستفادة من طاقته الإيجابيّة وتأثيره في هذا السياق، وخصوصاً عندما تتعدّد الآراء الدّينيّة فيها، ويمثّل بعضها - برأينا - مجافاة للصحة العامة ولرأي الدّين.
وأجدني معنيّاً بالبوح أنّنا نواجه مشكلة في هذا الصدد مع فئتين من النّاس، الأولى من بعض الذين ينتمون إلى الدّائرة الدّينيّة وينظرون إلى الدّين أو قداسة بعض الشخصيات الدّينيّة بشكل خاطئ، عندما يفهمون تلك القداسة بأنها تحلّل من المسؤوليّة، وتخلٍّ عن الواجبات بما فيها تلك التي تتصل بحفظ السلامة الصحيّة للأشخاص وأمنهم الصحي، والثّانية تلك الفئة التي تملك موقفاً عدائيّاً من الدّين، فلا توفّر فرصة إلا وتعمد إلى استغلالها لتعبّر عن عدائيّتها تلك، ولتمارس تشويهاً مسيئاً للدّين، يفتقد إلى أدنى شروط الموضوعيّة والعلميّة والجدوائيّة، بل والحس الإنساني في بعض الأحايين.
القاسم المشترك بين الفئتين هو الفهم الخاطئ للدّين، والفارق بينهما أن الأولى تريد من القداسة إلغاء منطق الواجب والمسؤوليّة، بينما الثّانية تريد من منطقها إلغاء أي دور للدّين ولو كان بنّاءً ومجدياً في خدمة المصلحة العامّة وخير الإنسان، وكلاهما يخطئ ليس فقط بحق الدّين، وإنّما بحقّ الإنسان الذي يجب أن لا نوفر أي معطى يفيده في خيره وسلامته وأمنه الصحي.
أمّا سؤال المقالة وهو: ما الذي يمكن أن يقدمه الدّين في مواجهة هذا التّحدّي الذي تواجهه مجتمعاتنا في أمنها الصحي وسلامتها الصحيّة؟
والجواب فيما يلي:
- يمكن للدّين من خلال منطقه الفقهي وأحكامه الفقهيّة أن يكون عامل إلزام وتحفيز فيما يتّصل بمجمل الإرشادات والإجراءات الصحيّة التي تصنف من الجهات الصحيّة المعتمدة على أنّها إجراءات مطلوب اعتمادها للحدّ من انتشار الوباء ومواجهته... حيث يمكن للفقه أن يجعل من تلك الإجراءات موضوعاً للوجوب الدّيني والإلتزام الشرعي، بحيث ترقى إلى أن تكون من الواجبات الدّينيّة التي يجب العناية بها كما الصّلاة والصيام...
وهذا الأمر قد حصل من قبل كبار مراجع الدّين في النّجف وقم، وتم بيانه من قبل الكثير من علماء الدّين فيما يتّصل بالمصافحة أو المعانقة أو الزّيارات الاجتماعيّة أو إقامة الصلوات في المساجد أو مجالس العزاء في النّوادي الحسينيّة أو زيارة المراقد المقدّسة وغيرها من المسائل، بل إن بعض مراجع الدّين - وفي سياق بيان مستوى الجدّيّة والمسؤوليّة - أفتى بأن من يتسبّب بإصابة شخص آخر بالوباء يتحمّل تكاليف علاجه، ويدفع ديّته إن مات بسبب هذه الإصابة.
- القيم الدّينيّة التي تساعد على توفير السّلامة النّفسيّة والدّعم المعنوي، الذي نحتاج إليه بقوّة في هكذا أزمات وتحدّيات لمواجهتها بمزيد من الاطمئنان والصّبر والأمل والثّقة والرّوح الإيمانيّة، التي تستطيع من خلال مجمل المفاهيم والقيم ذات الصّلة أن تجعل المرء أشدّ قوّة على مواجهة الصّعاب وأشدّ حصانة نفسيّاً على تحملها وأكثر قدرة على تخطّيها والعبور منها عندما تربطه بالغيب وبالقوّة القادرة والحكيمة والمطلقة، التي لا تريد بالانسان إلّا خيره طالما أخذ بأسباب الخير والسّلامة.
- المفاهيم الدّينيّة التي ترقى بالحس الإنساني إلى مستويات عالية جدّاً، والتي تصعّد في الإنسان الشعور بالمسؤوليّة الأخلاقيّة والإنسانيّة إلى مديات بعيدة، عندما تجعل من حياة الإنسان وسلامته موضوعاً للمسؤوليّة الجزائيّة الأخرويّة وموضوعاً للموقف الدّيني، سواءً في بعده الدّنيوي أو الأخروي، وعندما تجعل من السلامة الصحيّة للإنسان أمراً متقدّماً على كثير من الاعتبارات الدّينيّة الأخرى كالعبادات من الصيام وغيره، ممّا يدفع نحو التّعامل بكثير من الجدّيّة والمسؤوليّة في هكذا أزمات وتحدّيات.
وعلى ما تقدّم سيكون من المفيد والمجدي أن يستفاد من الدّين ومفاهيمه وقيمه، وأن يُعمل على توظيفها في مواجهة التّحدّي الذي نعيشه في أيّامنا هذه، فيما يتّصل بهذا الوباء وما يخلّفه من نتائج وتداعيات، ولن يكون صحيحاً ممارسة أي إلغاء لدور الدّين في هكذا ظروف، لأنّنا نحرم بذلك أنفسنا من دور بنّاء وطاقة إيجابيّة يمكن أن نستفيد منها إلى حدّ بعيد.
ولن يكون أيضاً صحيحاً القبول بأي خطأ أو انفلات في بيان الموقف الدّيني من أي كان، حتّى لو كان يحمل صفة دينيّة كبرت أو صغرت، مما يؤدّي إلى الإضرار بالشأن العام والأمن الصحي، بل المطلوب ضبط الخطاب الدّيني وبناؤه بطريقة واعية ومسؤولة وهادفة وبنّاءة، والعمل أكثر فأكثر على تطوير البعد المؤسّساتي النّاجح في الإطار الدّيني، للحؤول دون أن يأخذ الفهم الخاطئ للدّين لدى أي كان مداه، وللحدّ في المقابل من محاولات التّشويه التي يمارسها البعض بحقّ الدّين وقيمه.