الإسلام السياسي ومشروعه: تطبيق الشريعة أم إقامة العدالة؟
تذهب العديد من حركات الإسلام السياسي إلى المناداة بتطبيق الشريعة، كعنوان لمشروعها السياسي، جاعلة منه الهدف الأسمى في بنود ذلك المشروع وأولوياته.
وإذا ما طرح السؤال عن موقع العدالة بجميع تمظهراتها في ذاك المشروع، فإن الجواب الذي عادة ما يقدم، هو أن تطبيق الشريعة يكفل تحقيق العدالة، بحيث تغدو الشريعة المدخل الوحيد والحصري لتلك العدالة، بحسب الفهم الذي يقدمه لها منظرو ذلك المشروع.
قد يكون في هذا الجواب شيء من التبسيط لحقيقة العلاقة بين الشريعة والعدالة، والتي - من دون شك- تقوم على الوصل بينهما، لكنها في الوقت نفسه تنطوي على الفصل أيضاً، ليس فقط على مستوى مفهوم كل منهما، وإنما أيضاً على مستوى تمثلات كل من المفهومين، وتمظهراته، بحيث أننا إذا أخفقنا في إدراك مساحة الفصل تلك ومفارقاتها، فسوف يقود هذا الأمر إلى الإخفاق في تحقيق العدالة، بل والوصول إلى إفشال الشريعة، عندما نقوم بتحميل الشريعة ما لا تحتمله، بل سوف يؤدي ما تقدم إلى فشل المشروع السياسي لتلك الحركات، إما لجهل الأهداف الأبعد لذاك المشروع، أو جهل الوسائل الملائمة لبلوغ تلك الأهداف.
في مقام الوصل بين الشريعة والعدالة، ينبغي القول: إن العدالة هي من أهم المرتكزات النظرية للشريعة، والتي هي بدورها من تمثلات تلك العدالة.
لكن في مقام الفصل ينبغي الإشارة إلى جملة من المفارقات، التي ينبغي أن تلحظ منهجياً في أية مقاربة، تهدف إلى إضافة هاتين المقولتين إلى حقل التطبيق، في مختلف مجالات الاجتماع الإنساني من سياسي وغيره.
هنا لا بد من الإشارة إلى جملة تلك المفارقات ذات الصلة:
- الهدف الأبعد لأي مشروع سياسي أو اجتماعي إسلامي هو العدالة وليس الشريعة، وهذا المعنى يمكن أن يلحظ في القرآن الكريم ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
- دائرة العدالة هي أوسع من دائرة الشريعة، بمعنى أنه توجد مساحات في مختلف الأطر الاجتماعية وغيرها لم يرد فيها حكم مباشر في الشريعة، ولكن تلك المساحات يجب أن تقوم على أساس العدالة وموازينها.
- تطبيق العدالة لا يقتصر على أحكام الشريعة (والتي يطلق عليها الأحكام الإلهية)، وإنما يتعداها إلى نوع آخر من الأحكام يطلق عليه الأحكام التدبيرية، هذه الأحكام التي تشرع من قبل السلطة التشريعية وفق مجموعة من الموازين، والتي منها قيمة العدالة.
- إذا أردنا أن نوازن بين العدالة والشريعة، فيمكن القول إن العدالة هي الحاكمة على الشريعة وليس العكس، بمعنى أنه لو افترضنا حصول التزاحم في مقام التطبيق بينهما، فإن الذي يقدم هو العدالة وليس الشريعة.
- إن مساحة تطبيق العدالة فيما هو خارج إطار الشريعة في مختلف الميادين الاجتماعية، هي أوسع بكثير مما هو في إطار الشريعة.
- إن تطبيق العدالة في تلك الميادين المشار إليها آنفاً، يحتاج بدرجة أشد إلى أمور أخرى ترتبط بالجانب الرؤيوي والقيمي والأخلاقي، كما يحتاج أيضاً إلى المعرفة الصحيحة بالواقع المعاصر وجميع تعقيداته وملابساته.
- بناء على ما سلف، إن تطبيق العدالة لا يحتاج فقط إلى علم الشريعة، وإنما يحتاج أيضاً وبدرجة أكبر إلى مختلف العلوم والتخصصات الحديثة، التي تتصل بمعرفة الواقع، فضلاً عن المعارف التي ترتبط بفهم الدين فهماً رؤيوياً عميقاً ومتكاملاً ومتوازناً، فضلاً عن ذلك البعد الذي يتصل بالجانب الأخلاقي والتربوي.
- إذا كان لعلوم الشريعة صيرورتها الخاصة بها، فإن للعدالة في مختلف الميادين الاجتماعية صيرورتها المعرفية الخاصة أيضاً، التي تقيم وصلاً ما مع الشريعة، لكنها تستمد أيضاً موادها من المبادىء الإيمانية والقيم الأخلاقية والمعاني الروحية، فضلاً عن مجمل العلوم والتخصصات المعاصرة ذات الصلة.
إن ما تقدم يؤسس لدعوة مفادها ضرورة إعادة بناء مشروع الإسلام السياسي، ليكون بالدرجة الأولى مشروع عدالة (باعتبار أن العدالة هي من أهم القيم الاسلامية بل والإنسانية، وليست هي القيمة الوحيدة)، لينظر إلى الشريعة ضمن هذا السياق، بحيث يغدو العمل على تطبيق الشريعة مفردة من ضمن رؤية أوسع وأشمل. وهو ما يؤثر أيضاً على الخطاب السياسي، والبرامج العملية، والسياسات المتبعة، وشبكة التحالفات والعلاقات، وسوى ذلك.
ومن هنا يصح أن نلفت إلى أن ما أردناه بعنوان البحث ليس وجود تنافٍ بين العدالة والشريعة، بل بيان كيف يمكن أن تكون العلاقة البنيوية بينهما، بما يؤسس لإدارة منظومة الشريعة وتوظيفها بطريقة مختلفة وهادفة، تقوم على وجود رؤية تتموضع الشريعة من ضمنها، وعلى وجود غايات أبعد يُعمل على بلوغها، بما يفضي إلى آليات مختلفة في التعامل مع الشريعة ومفرداتها، بما يسمح بتحقيق تلك القيم، وملامسة تلك الغايات.
إن ما تقدم يسمح بأن يكون مشروع الإسلام السياسي مشروعاً عابراً للأطر الخاصة بهذا الدين أو تلك الطائفة، عندما تكون المساحة الأغلب في ذاك المشروع مساحة تقوم على قيم إنسانية جامعة، تجتمع عليها مختلف الجهات وتوجهاتها من قبيل العدالة والإصلاح ومواجهة الفساد والتنمية الشاملة وغيرها، بما يوفر أكثر من أساس لقيام مشروع وطني عام، بل سوف يكون مشروعاً ذا بعد إنساني شامل، يمكن أن يشكل منطلقاً لعلاقات إنسانية أوسع مدى.
كما يمكن القول، إن تلك المقاربة تؤسس لنجاح مشروع الإسلام السياسي، عندما يحدد أهدافه بشكل صحيح، كمقدمة لاعتماد الوسائل الصحيحة التي توصل إلى تلك الأهداف، وإن كان هذا الأمر مرتبطاً بإعادة بناء العقل السياسي لتلك الحركات، بشكل يتجاوز فيه أكثر من خلل يعاني منه، ويعيقه عن القيام بدوره بشكل صحيح وهادف.
بل إن ما تقدّم لا يتّصل فقط بالمشروع السياسي، بل يتعداه إلى المشروع الديني ككل، عندما يعاد تفعيل البعد والعلمي القيمي والأخلاقي والروحي في فهم الدين وتطبيقه، سواء في التربية أو التعليم أو العلاقات الاجتماعية والأسرية وسوى ذلك.
وهو ما يسهم أيضاً في تحصين الدين نفسه من أن يصبح ألعوبة بيد السلطان، عندما يتخذ ذلك السلطان من تطبيق شيء من الشريعة غطاءً لتضييع العدالة ونحرها، لتصبح الشريعة عندها وسيلة للقضاء على العدالة والإصلاح وغيره من القيم، لانه إذا ما تم تقديم الفهم الديني (والثقافة الدينية أيضاً) على أنه عميق الصلة بمجمل تلك القيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية... عندها لن تستطيع أية سلطة أن تمارس تعسفها في الإيهام بذلك الفصل بين الشريعة والقيم، ولن يكون متاحاً لأي سلطان مهما تجلبب بلباس الدين، أن يتلطى ببعض من الشريعة وتطبيقها، ليمارس الظلم ويعيث فساداً في البلاد وبين العباد.
إن مؤدّى هذه المقاربة هو القول، بأن تطبيق الدين إنما يعني بالدرجة الأولى إقامة العدالة، سواءً كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو مالية أو ضرائبية أو إدارية... وإن أي محاولة لتقزيم معنى العدالة في الدين وفكره وحبسها في أطر محدودة وضيقة؛ إنما تؤدي إلى تشويه الدين، وتشويه جميع التطبيقات التي تقدم باسم الدين، وإفقاده بالتالي تلك الضمانات، التي تحول دون سوء توظيفه أو استغلاله.
كما أن إدراكنا لأهمية موقع العدالة ودورها، يقود إلى ضرورة العمل على أن تتحول هذه العدالة إلى ثقافة عامة اجتماعية وسياسية وتربوية ودينية... وهو ما يحتاج إلى صيرورة معرفية تؤدي إلى إنتاج أخلاق العدالة، وفقه العدالة، واقتصاد العدالة، والتربية على العدالة، وعلم العدالة... بما يسمح بتنمية حس العدالة وأخلاقها وثقافتها، وولوجها إلى جميع المجتمعات والفئات والمراحل العمرية، ومختلف الميادين الاجتماعية والتربوية والإعلامية والأكاديمية وغيرها.
وكما ينبغي أن لا يكون لأي من جماعات التيار الديني حزازة فيما أسلفناه، فإنه ينبغي أن لا يكون لدى أي من جماعات التيار اللاديني غضاضة في هذا الأمر، لأنه فضلاً عن أنّه يسهم في تصحيح وجهة مشروع بعض حركات الإسلام السياسي، وإيجاد قاسم مشترك للتواصل والتعاون معها، وتوفير بيئة مناسبة للاستقرار، وتحصين الاجتماع العام من الشقاق والانقسام والفتنة... فإنه أيضاً يعطي قوة دفع قوية لتلك القيم وتطبيقها، عندما يصبح لها بعد ديني، يدخلها في حيز الواجب الديني، كما الوطني، بل والإنساني.
إنّ ما ذكر يسهم في توحيد كثير من الرؤى والجهود بين العديد من جماعات التيار الديني واللاديني، ويعمل على أخذها إلى المكان الصحيح، الذي يخدم تطلعات وأهداف أي مجتمع، يتحلى بمستوى من تلك الثقافة المشار إليها، وينشد تحقيق ولو مستوى من تلك العدالة وتطبيقاتها.
إن مؤدى ما ذكرنا هو أن تأخذ الشريعة مكانها بحيث لا تقصر عنه، ولا تتعداه إلى غيره، مما يتصل بتلك المساحة، التي يجب أن تملأ بصناعة معرفية، تتميز بمنهجية وأدوات اجتهادية، تختلف عما هو معتمد في صناعة الاجتهاد الفقهي وأدواته.
إن ما أردناه من هذه المقاربة هو إعادة الاعتبار للعدالة، والقول بأنّه لن يكون صحيحاً حبس العدالة في إطار الشريعة، حتى ولو كان التاريخ الإسلامي حافلاً بصناعة من هذا النوع، إما جهلاً وإما عمداً، لأنه عندما يُعمل على إبعاد قيمة العدالة عن تلك المساحة الواسعة اجتماعياً واقتصادياً ومالياً... ليقال بأن العدالة تحققت بتحقّق الشريعة أو بعضها؛ إنما يراد ذلك، ليتسنى للسلطان ومترفيه من أهل الجشع والطمع؛ الاستئثار بتلك المساحة والعمل فيها بمصالحهم وأهوائهم، وإخراجها من أية سلطة قيمية أو رقابة اجتماعية، تقوم على ثقافة العدالة وأخلاقها.
لقد نجحت أكثر من سلطة في التاريخ الإسلامي في تشكيل صيرورة ثقافية، خضعت لهيمنتها وتوجيهها، والذي يجب العمل عليه الآن، هو الشروع بتكوين صيرورة أخرى ذات بعد أصيل ثقافي تربوي اجتماعي اقتصادي...تستلهم معانيها من جوهر الرسالات السماوية، و تنبع من روح الدين، تلك الروح التي تتمحور حول العدالة، وترتكز على حقيقة الرسالات الإلهية التي تهدف إلى العدالة، ولبيان هذه القاعدة بأن الدين يقام على البسيطة ما أقيمت العدالة، وبأن العدل هو فيء الله على الأرض وليس السلطان.
.