العدالة وإمام العدل
السؤال المفتاحي لهذه المقالة هو أن الوصول إلى إقامة العدالة، هل يحتاج بشكل أساسي إلى سلطة عدالة، أم إلى قانون عدالة؟ قد يكون الجواب الأولي هو أنّه يحتاج إلى كليهما؛ وهو صحيح،- ونحن هنا لا نريد أن نضع السلطة في قبال القانون-، لكن البحث هو في مكان آخر، وهو أن من يريد الوصول إلى مجتمع العدالة ودولة العدل، هل يجب أن تكون أولويّته القانون، أم السّلطة التي يجب أن تمسك بذلك القانون، وتسعى إلى تطبيقه؟ أي إن محل الثقل في إقامة العدل هل هو القانون كمعطى معرفي، أم السلطة كمعطى بشري؟ ولا شك أن اعتماد أي من الجوابين تترتّب عليه العديد من النّتائج على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي والتّربوي، ومن ناحية السياسات والاستراتيجية والخطط التي يجب أن تعتمد، ويتمّ تبنّيها.
في مقام الجواب الأول على ذلك السؤال، يمكن القول إنّ الفكرة الأساس التي يريد هذا البحث العمل عليها، هي أن الوصول إلى العدالة يحتاج بشكل أساس إلى سلطة عادلة قبل أي شيء آخر. فهذه السلطة هي التي تنتج قانون عدالة، وهي الأقدر على إدارة هذا القانون وتوظيفه، بطريقة توصل إلى أهدافه وغاياته، في إقامة مجتمع العدالة، وبناء دولة العدالة.
إذا كان هناك من سلطة عادلة، فهي تستطيع أن تصل إلى قانون عدالة- إن لم يكن من قانون- وأن تعمل على حسن إدارته بطريقة توصل إلى نتائجه. أما إذا كان هناك قانون عدالة، ولكنه كان بيد سلطة فاسدة، فإنها قادرة على سوء إدارته، وتوظيفه بطريقة توصل إلى خلاف نتائجه المرجوّة في العدالة وتحقيقها.
إن أرقى قانون عدالة سوف يعطي نتائج سيئة، عندما يكون بيد سلطة فاسدة وغير عادلة. وهذا القانون نفسه سوف يعطي نتائج مختلفة، عندما يكون بيد سلطة تحمل منسوباً أفضل من العدالة. وإن التجارب التّاريخيّة في مجملها- بما فيه تجارب الاجتماع الدّيني- خير دليل على ما نقول. إذ إن أعظم الشرائع الإلهية كانت تدار بطريقة تعطي خلاف ما ترجوه من نتائج في إقامة القسط، وتوصل إلى خلاف ما تهدف إليه من غايات في تحقيق العدل، عندما كان يتولى شأنها سلطان ظالم، أو سلطة فاسدة.
بل عندما نأتي إلى تاريخنا المعاصر وأزماته نستطيع القول: إن أشدّ ما نفتقد إليه هو الدّولة العادلة قبل قانون العدالة، وإن أشدّ ما نحتاج إليه هو رجال دولة قبل أن تكون الحاجة إلى قانون دولة. وأعاود القول بأنّنا لا نريد هنا الانتقاص من دور قانون العدالة وأهميته، وإنّما أريد القول بأن تحقيق العدالة هو ذو بعد بشري قيمي، قبل أن يكون ذا بعد قانوني حقوقي، وأن العدل هو فعلٌ بشري، قبل أن يكون فعلاً قانونيّاً.
إن هذه المقاربة لفلسفة العدالة تترتّب عليها نتائج عديدة في الفكر والثّقافة والتّربية، وفي بناء المجتمعات والدّول، وفي المشاريع والخطط التي يجب أن تعتمد للوصول إلى تلك العدالة وإقامتها.
هنا تصبح العدالة ذات بعد قيمي أخلاقي تربوي، قبل أن تكون ذات بعد علمي قانوني محض.
العدالة هنا مشروع تربوي يبدأ بالأسرة والمدرسة والجامعة ومناهجها التّربويّة والتّعليميّة، قبل أن يكون نتاجاً علميّاً مجرّداً تقوم به مراكز الدّراسات والأبحاث.
العدالة هنا تتطلّب صناعة إنسان العدالة ومجتمع العدالة، قبل أن يُعمل على إنتاج كتب العدالة وأبحاث العدالة.
العدالة هنا مشروع ثقافي لتنمية ثقافة العدالة في المجتمع، قبل أن تكون مشروعاً معرفيّاً لبناء معرفة مجرّدة عن مردودها الثّقافي.
دولة العدالة تستلزم هنا أن تكون الفئة الحاكمة ممن يملك ثقافة عدالة، وتربية عدالة، ووعي عدالة، وممن يحمل قيم العدالة في وجدانه وفكره؛ قبل أن تستلزم دستور عدالة، وقانون عدالة، وتشريع عدالة. هنا يصبح المطلوب أن تكون السلطة التّنفيذيّة سلطة عدالة وليس فقط السلطة التّشريعيّة، لأنّ التّشريع لوحده لا يكفي، والقانون وحده لا يفي. ليصبح الهمّ وتضحى الأولويّة أنه كيف يمكن الوصول إلى سلطة عدالة وحكومة عدالة ووزارة عدالة، لتكون العدالة كقيمة مقدّمة على بقيّة القيم وجميعها؛ بحيث إذا تعارضت العدالة مع أي من القيم الأخرى فإن القيمة التي تقدّم هي قيمة العدالة، وتُؤخر جميع القيم الأخرى، ولا يحصل العكس، بأن يُقدم أي من القيم الأخرى على قيمة العدالة.
هنا يصبح من اللّازم تغيير النّظرة إلى كيفيّة بناء السّلطة من أن تكون سلطة تحمل صفة تمثيليّة بمعزل عن قدرتها على إنتاج العدالة وفعلها، إلى سلطة تحافظ على صفتها التّمثيليّة، لكن شريطة أن تخدم دولة العدالة وفعلها ومشروعها، وألا تكون على حساب العدالة وتسييلها وإقامتها في اجتماع الدّولة.
لقد أثبتت التّجارب أن وجود مراكز دراسات، أو مؤسسات علمية على صلة بالعدالة، أو وجود بعض من نخب العدالة، أو وجود شيء من تراث العدالة، أو خطاب العدالة... كل ذلك لا يوصل إلى مقصده ما لم يعمل على بناء مجتمع العدالة، مجتمع تسوده ثقافة العدالة، وقيم العدالة، كأساس لدولة العدالة.
إن ما تقدم يتطلب من تلك الأحزاب والجهات التي تحمل في فكرها هدف إقامة العدالة، أن تحول أحزابها ومجتمعاتها إلى أحزاب عدالة، ومجتمعات عدالة. وهو ما يقتضي مقاربة مختلفة في أكثر من مجال تربوي، وثقافي، بل وفكري، ومعرفي لموضوع العدالة ومشروعها، ويتطلّب تغييراً في الرؤية والبرامج والخطط والسياسات والأولويّات وفي مختلف المجالات، ويفرض تبدلاً في النّظرة، والتي يجب أن ترتكز في جوهرها على إمام عدل، وإنسان عدل، ومجتمع عدل؛ للوصول إلى الهدف المنشود في إقامة العدالة في الاجتماع العام، وإجتماع الدّولة.